الثورة تُعيد “الميثاقية” إلى الناس

مدة القراءة 3 د


تستند فكرة الميثاقية بمفهومها المجرد والعميق إلى فقرة سامية وشديدة الوضوح في مقدمة الدستور، تؤكد أن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، وذلك استنادًا إلى مُسلّمات هذا العيش وإلى فرادة الصيغة اللبنانية وروحيتها ورسالتها، لا إلى لعبة المحاصصة السلطوية المقيتة بين أولئك الذين أجهزوا على طوائفهم وجيّروها في خدمة مصالحهم ومكتسباتهم السياسية والشخصية.

تورّمت النزعة نحو استخدام هذه الورقة كعنصر قوة إضافي يمنح صاحبها قدرات استثنائية توازي حقّ النقض في كل صغيرة أو كبيرة، ما ساهم في تعطيل فعالية الديمقراطية والنظام، وفي تحويله إلى واجهة منمّقة لديكتاتورية مقنّعة. حيث أن استقالة وزير قد تُطيّر الحكومة برمتها، وغياب بعض الأحزاب قد يُغلق مجلس النواب، فيما تداخل العامل السياسي بالمعطى الديني، وصار لا بدّ لرئيس الجمهورية أن يحظى بغطاء بكركي على سجيّة المشهدية الشهيرة لترشيح “الأربعة الكبار” (أمين الجميّل، ميشال عون، سليمان فرنجية، وسمير جعجع). وهذا ما انسحب أيضًا، وإن بأشكال أو فعالية مختلفة، على موقع رئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي.

ثمّة هنا حدثان مفصليان لا بد أن يخضعا لنقاش معمّق: الأول يتعلّق بالانتخابات النيابية الأخيرة، والثاني بالثورة الشعبية الهادرة التي انفجرت قبل نحو شهرين ونيف في غالبية المناطق اللبنانية.

في انتخابات العام 2018، برز عامل مباغت لكنّه مكثف الدلالة والوضوح، تمثّل في انخفاض نسبة الاقتراع عن انتخابات العام 2009، وذلك رغم جملة من العوامل المساعدة، ليس أقلها توق اللبنانيين إلى ممارسة حقّهم الديمقراطي بعد 9 سنوات من الانقطاع نتيجة التمديد المتتالي لمجلس النواب. إضافة إلى إقرار قانون جديد للانتخابات يعتمد مبدأ النسبية، وهذا بحدّ ذاته كان يجب أن يُشكل دافعًا أساسيًا لمشاركة فئات جديدة في الترشّح وفي الاقتراع. لكن ذلك لم يحدث، وربما هذه التجربة تكاد تكون حالة فريدة على مستوى العالم برمته.

كان لا بد لمشهد الثورة الاستثنائي أن يقلب الطاولة بوجه جميع الأحزاب وأكثرها شمولية وقدرة على الأدلجة

لاحقًا، وتحديدًا منذ انطلاقة الانتفاضة في أواخر العام 2019، بدا أنّ هذه نتيجة مفهومة، بل وتمتلك أساسًا حيويًا وصلبًا، فقد تبيّن أن الكثرة الكاثرة من اللبنانين ومن الطوائف المختلفة، قد ضاقت ذرعًا بالأوضاع القائمة، لا سيما لجهة التوازنات السياسية والطائفية التي ولدّت حالة من المراوحة الدائمة فوق جبل من الأزمات المركّبة. وبالتالي كان لا بد لهذا المشهد الاستثنائي أن يقلب الطاولة بوجه الجميع، وصولاً إلى أكثر الأحزاب شمولية وتنظيمًا وقدرة على الأدلجة والتدجين وصناعة الرأي العام. 

أولى الثمار المباشرة كانت تكليف رئيس جديد لتأليف الحكومة، وهو تكليف يفتقد إلى أبسط مقومات الميثاقية بنسختها المعتمدة، وهذا تطور مهم جدًا، كونه يفتح المشهد أمام كسر هذه المعادلة إنطلاقًا من سابقة ناجزة وموثقة وغير قابلة للجدل أو النقاش، ما سيؤسس حتمًا لاهتزاز عنيف ومتواصل لكل التركيبة السياسية، وسيساهم عاجلاً أم آجلاً بفتح كوة حقيقة لتغيير كبير وغير مسبوق.

الجزء الأهم والأعقد أمام الثورة يكمن في قدرتها على كسر التوازنات الدقيقة التي تُشكّل حائط الدفاع الأول والأقسى عن التركيبة القائمة. وبالتالي فإن سحب “ورقة الميثاقية” من جيوب هؤلاء وإعادتها إلى الناس يُشكّل الأولوية المطلقة والمدماك الأساس لقيامة أيّ مشروع وطني جديد.

مواضيع ذات صلة

بشّار: معي كلّ المسلمين ونصف المسيحيّين!

فيما الأنظار منصبّة على الجيش اللبناني والتوغّل الإسرائيلي. وفيما ننتظر ردود اللجنة الخماسية، أو زيارة آموس هوكستين، أو مقرّرات الحكومة اللبنانية. وفيما القلب على سوريا…

تحصين سعوديّ لسوريا ولبنان معاً: لا عودة للوراء؟

آليّة تطبيق القرار الدولي 1701 في لبنان تنتظر انتخاب رئيس للجمهورية في 9 كانون الثاني تتّفق هويّته مع بنود اتّفاق وقف النار. تستفيد إسرائيل من…

الشرع من “الإمارة الإسلاميّة” إلى “الدّولة الوسيطة”؟

عام 2014، أعلن الجولاني أنّه بصدد إقامة إمارة إسلامية في سوريا، وذلك بعد رفضه خلافة البغدادي، ومبايعته تنظيم “القاعدة”. وكانت غايته رفض قيام دولة علمانية…

كيف دبّروا فتنة “الميلاد” السّوريّ؟

ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضدّ “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق. قالت المتحدّثة…