استسلم رياض سلامة!

مدة القراءة 3 د


قرار مصرف لبنان وضع سقف للفائدة على الودائع صادم وتراجيدي. لم يكن في مدار التوقعات أن يستسلم رياض سلامة ويتخلى عن النظام النقدي الذي بناه حجرا حجرا منذ التسعينات.
اعتبارا من 5 كانون الأول 2019 يتحول لبنان إلى نظام مصرفي جديد، قوامه فائدةٌ يتحكم البنك المركزي بسقفها، مع قيود مشددة على حركة رؤوس الأموال.
هذا يعني نهاية النظام الاقتصادي الحر الذي قام عليه لبنان الكبير قبل مئة عام، ولو إلى حين، ونهاية النموذج الذي قام عليه تمويل المالية العامة منذ التسعينات، إلى غير رجعة. هزيمة ثانية للمحارب الذي اضطر للاعتراف بسوق الصرف الموازي قبل أسابيع قليلة.
مصرف لبنان يقول إن هذا التغيير موقت لستة أشهر، والتجارب تشير إلى أن تغييرا بهذا العمق لا يمكن عكسه خلال وقت قصير كهذا.
ماذا يعني النظام الجديد؟
نموذج لبنان التمويلي يقوم ببساطة على اجتذاب الودائع إلى القطاع المصرفي، لتوظيفها بشكل مباشر أو غير مباشر في أدوات الدين الحكومي. هذا النموذج لا يستمر إلا بثلاثة شروط:
– سعر صرف ثابت
– حرية حركة رؤوس الأموال
– فائدة مرتفعة مقارنة بالدولار الذي تثبت عليه الليرة
في علم الاقتصاد مفهوم مشهور هو “الثلاثية المستحيلة” (impossible trinity)، ملخصها أن من المستحيل على أي بنك مركزي أن يحقق ثلاثة أمور في وقت واحد: سعر صرف ثابت، وحرية حركة رؤوس الأموال، والاستقلالية في تحديد أسعار الفائدة.
في لبنان كان نظام رياض سلامة يتحكم بسعر صرف ثابت مقابل الدولار، ويوفر حرية حركة رؤوس الأموال، لكنه كان يسلّم بعدم التحكّم بأسعار الفائدة. ولذلك عندما قفزت الفائدة بشروط السوق إلى مستويات مجنونة لم يكن في وسعه فعل شيء، لأنه لا يريد التضحية بالضلعين الآخرين من المثلث.

الضحية الأولى ستكون حتما حرية حركة الأموال فقد أبلغ مصرف لبنان البنوك أنه يعتزم تشريع القيود التي تطبقها البنوك في واقع الحال

كانت تلك سياسة تتلاءم مع وجود فائض في ميزان المدفوعات بفضل تدفق الرساميل، لاسيما من المساعدات بعد حرب تموز 2006، ومن المغتربين الهاربين من الأزمة المالية العالمية في 2008 و2009.
كل ذلك انتهى الآن.
عندما يفرض مصرف لبنان سقفا للفائدة على الليرة عند 8.5% وعلى الدولار عند 5% خلافا لمعطيات السوق، فهذا يعني بصريح العبارة، أن من المستحيل علميا الاستمرار في نظام سعر الصرف الثابت وحرية حركة رؤوس الأموال في آن معا.
الضحية الأولى ستكون حتما حرية حركة الأموال. فقد أبلغ مصرف لبنان البنوك أنه يعتزم تشريع القيود التي تطبقها البنوك في واقع الحال. وتداعيات ذلك ستكون أكبر مما هو مُتصوَّر.
عندما يشرّع مصرف لبنان إنهاء حرية حركة رؤوس الأموال فإنه يعلن استسلامه لعدم إمكانية نمو الودائع بما يكفي لتمويل المالية العامة. فعجز الميزانية يتطلب نمو الودائع بما لا يقل عن سبعة مليارات دولار سنويا لتستمر البنوك في توفير التمويل للدولة، مباشرة أو بشكل غير مباشر عبر مصرف لبنان.
هذا يعني جزماً أن على مصرف لبنان إيجاد نموذج جديد لتوفير التمويل للدولة، مختلفٍ عن كل ما عرفناه في الاعوام العشرين الماضية.
الاحتمالان اللذان يحضران إلى الذهن إما إعادة هيكلة الدين العام، لا سيما الدين بالليرة (وقد ورد في ورقة حكومة الحريري الإصلاحية شيء من قبيل خفض خدمة الدين العام إلى النصف، الذي يعد نوعا من إعادة الهيكلة)، وإما خفض سعر صرف الليرة الرسمي، وإما خليط من الاثنين.
نجاح النظام الجديد ليس مضمونا، لكن الأكيد أن مخاض الخروج من النظام السابق سيكبّد اللبنانيين ألما كبيرا وفقرا.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…