قد لا يكون الفيديو الأوّل والأخير. سامر صيداوي المسترخي في اليونان كاد يفجّر بلداً عن بكرة صانعيه. قامت القيامة لساعات فقط، لكنّها كانت كافية لتعود ملامح حرب الأخوة من زواريب الخندق الغميق.
أهل الاعتدال ونبذ الإساءات الدينية، إمام البسطة و”الخندق”، “ضبضبوها” وخنقوها في مهدها بعدما استعرضت “عضلاتها” مع نقل تلفزيوني مباشر لـ “المجهول”. هذا كثيرٌ. شاشة تَسع لفتنة نظّن إنّها نامت. نوهم أنفسنا بذلك حين نتجاهل بأنّها تحضّر لعروض أكثر بشاعة وتدميراً لما اصطلح على تسميته “وحدة اللبنانيين”.
حين نتمختر على سطح الفوضى، يصبح متوقعاً المزيد من إعلانات الفتنة
في فجر الإعتذار بدا كأنّ شيئاً لم يكن. فقط حطام ما بعد الفتنة أنبأ بأنّ إعصاراً مرّ من هنا، وكالعادة واكبته جولات تطمين متبادلة بين من طلب الغفران عن إثم لم يرتكبه ومن صَفَح عن جريمة يعرف تماماً أنّ شخصاً مخبولاً ارتكبها لا طائفة تغطيه ولا “دار” تحميه. اعتذر سامر “الجاني” وبكبسة زر انضمّ إلى سرب المفتنين بأمرهم عن غير قصد الذين سيحفظهم أرشيف الثورات.
حين نتمختر على سطح الفوضى، يصبح متوقعاً المزيد من إعلانات الفتنة. قد يأتي الأمر على شاكلة تسجيل جديد تتناقله الهواتف الذكية المتوافرة بين أيادي أغبياء ممن قد يصنعون من السخافة والحقارة مجسّماً عملاقاً لشيء اسمه فتنة. قد يكون على قياس شائعة أو رسمٍ مفلوش على أحد جدران لـ “دوان تاون” أو مجرد هتافات تنطلق من قعر الغرائز أو حتى سفير مزعج يتجاوز الحدود في فرض الإملاءات أو موكب وزير يجتاز منطقة محرمة… أبشع ما يمكن أن نفعله انتظار حدوث المصيبة والتفاعل معها وليس اقتلاع كل ما يمكن أن يعيد إنتاجها وتدويرها لتصبح ذات منفعة تخريبية أكبر.
كان الطابور الخامس، “ما غيره”، جاهزاً للمهمة. هو المسؤول عن القنص ورمي الإينرغا والقذائف تارةً عند العلويّين وتارةً عند السنّة وتارةً أخرى في شارع سوريا
الفتنة كارثة لم تعد تهابها العقول المخدّرة بأنواع كلاسيكية من الموت البطيء، التقليدي، ذاك الذي زحف إليه روتين العادة أو الاستسلام. من “يَوم يومَك”، من أيام الحرب الأهلية ،نبدو أهلاً لها والأجدر باحتضانها.
قبل “الثورة” ارتدت صاحبة القوام البشع عباءة الإرهاب والاغتيالات. ضحايا مفترضون لسرب من السيارات الملعونة المفخخة. ليس هذا فقط. كان الانتحاريون يتجوّلون بيننا. يَعدوننا بمزيد من عروض الأشلاء. يومذاك بلغت الفتنة مداها الأكبر وحلّقت. لاقتها المتاريس التي ارتفعت بين باب التبانة وجبل محسن في طرابلس. وكان الطابور الخامس، “ما غيره”، جاهزاً للمهمة. هو المسؤول عن القنص ورمي الإينرغا والقذائف تارةً عند العلويّين وتارةً عند السنّة وتارةً أخرى في شارع سوريا الفاصل بين “الجبهتين”.
من لا يذكر شريط “الكومبارس” الثلاثة في فيديو “سرايا عائشة أم المؤمنين للمهمات الخارجية”، وهمّ يتبنّون تفجير الرويس الانتحاري في آب 2013. فيديو من صنع هواة خلصت أجهزة الامن إلى اعتباره تسجيلاً مضبوطاً على ساعة الفتنة السنية – الشيعية. وكم من جولة تصادم عنوانها “السلاح غير الشرعي” زرعت الألغام بين مستخدميه والمهدّدين به وبين رافضيه.
يستسهل المفتنون التلاعب بأرواحنا وأعناقنا. نقدّم لهم عن وعي وعن جهل عدّة الانتقام منا. تركيبة طوائفية مذهبية محبوكة بدمّ حامٍ جاهزة للانفراط أمام أيّ مشروع تخريبي حتى لو كان من صنع مبتدئين. يتسلّون بأبناء وطن مرهف الإحساس، يرقصون للحياة فوق القبور. هذه عاداتهم، لا تصنع انتصاراتهم إلا فوق جثث الابرياء.
إستثارةٌ مقصودة لغرائز “الآخر” نجحنا حتى الآن في إنقاذ أنفسنا من شرّها المطلق. الفتنة، بكامل أناقتها لا تكفّ عن المحاولة. حاضرة دوماً لكي تبتلع كل شيء. السلم الأهلي و”قريبه” العيش المشترك و”جارتهما” الوحدة الوطنية. ضحاياها يعشّشون في الأزقة والمنازل المتلاصقة الخائفة، حيث بقع الفقر والعوز والجهل والولاء الأعمى. وما أشطر أهل القرار وقيادات السلطة في توسيع أرجاء هذه البقع والجهد “الوطني” الدائم في أن لا تزمّ يوماًّ.