يراقب “حزب الله” التطورات على الأرض بهدوء ويبني خطواته في أعقابها، وكأن لا أزمة اقتصادية في البلاد ولا تهديد جدّي بالإنهيار. لقد مرّ من عمر ثورة 17 تشرين الأول، أربعون يوماً ومازالت الأزمة السياسية “مكانك راوح”، فيما سلوك “حزب الله” يشي بأنه لا يستعجل التنازل على الاطلاق. فهو ذو عقلية عسكرية وله خبرات ميدانية واسعة، اختبر مسار الثورات في سوريا والعراق واليمن، ويدرك جيداً أن أي حراك ثوري متبدّل وقد يكون عمره طويلاً.
ربما يرى الحزب أنه مازال من المبكر الرضوخ إلى مطالب الشارع التي يتسلّح بها سعد الحريري لتعويم نفسه بعد الاستقالة، خصوصاً أن حسابات الحزب مختلفة عن مطالب الشارع وفيها ماهو داخليّ يخص علاقته بحلفائه، وما هو وخارجيّ يتعلق بأجندة إيران!
الثورة بدأت تستنزف نفسها، لأن الناس أضحت تهتمّ بسبل تأمين لقمة عيشها
مصادر خاصة أشارت إلى أنّ جهات شيعية لصيقة بـ”حزب الله”، بدأت عملية بحث سريّة ومتأنية جداً عن شخصيات غير حزبية “يُشهد لها بالمناقبية والكفاءة والحياد”، ينتقيها بعناية “من خارج لبنان” لتكون مرشّحة محتملة لتولّي حقائب وزارية من حصّة الطائفة، في حال قرّر السير في حكومة متخصصين. ولأن هؤلاء المتخصّصين المستقلّين لن يهبطوا علينا بمظلات من كوكب زُحل أو المشتري، فمن الطبيعي أن يكونوا محطّ أخذ ورد بين أركان السلطة. وهذا يعني حكماً أن احتمال تنازل “حزب الله” البراغماتي في اللحظة المناسبة، موجود في الحسبان دوماً لكن أقلّه ليس الآن، لأنّ الخطوة ما زالت في إطار الاستطلاع والجوجلة، وإن كانت مستبعدة استناداً إلى تاريخ “حزب الله”.
وحتى يتجنّب “حزب الله” تجرّع كأس سم التنازل، يراهن بالدرجة الأولى على ملل الناس وانكفاء التحركات في الشارع. أوساط الحزب تقول أن الثورة تتراجع، وتستدل هذه الأوساط إلى ذلك من خلال استطلاعات تجريها جهات متخصصة يعتمد على معلوماتها الحزب وتدور في فلكه (نشر واحدة منها الزميل قاسم قصير على صفحته في موقع فايسبوك قبل أيام). تتحدث هذه الاستطلاعات عن أن الثورة بدأت تستنزف نفسها، لأن الناس أضحت تهتمّ بسبل تأمين لقمة عيشها بعد ما يزيد على نحو شهر من التظاهر والتعطيل، وعدد كبير منهم ما عاد يحبّذ فكرة قطع الطرقات، لأنه بات يخاف على أولاده من خطر ضياع العام الدراسي، وهذا الكلام حقيقي الى حدّ بعيد.
يرى الحزب أن احتمال انكفاء الناس عن التظاهر، سيقضي على آمال الحريري بتشكيل أي حكومة مستقلة، طالما أن أصحابها (الثوّار) تخلّوا عنها. هذا الأمر، من وجهة نظر الحزب، سيدفع الحريري حكماً نحو الرضوخ لرغباته السياسية، لأن سلاح الشارع الذي أمسك به الحريري سيكون بذلك قد سقط وأسقط معه حجج الحكومات المستقلة كلها.
وفي هذا الصدد أيضاً، يعود الحزب إلى مخزون الذاكرة فيستعيد تجارب راكمها في علاقته مع الحريري منذ اغتيال والده عام 2005، يجد أن في كل مرة تعنّت الحريري كان ينتهي به الأمر إلى التنازل. في حكومته الأولى، منح الحريري “حزب الله” مع حلفائه، الثلث المعطل. وكان هذا الثلث سبباً إقالته عند مدخل مكتب الرئيس باراك أوباما البيضاوي في واشنطن. وكذلك تراجع عن ترشيح سليمان فرنجية (وقبله عن ترشيح صُوَرّي لسمير جعجع) لصالح مرشح الحزب ميشال عون بموجب ما سُمّي “التسوية الرئاسية” (المشؤومة التي أطلقت الثورة). بعد ذلك، أصرّ الحريري، خلال تأليف حكومة العهد الأولى التي استقال منها مؤخراً، على عدم توزير “السنة المستقلين”، ثم تراجع.
كل هذه التجارب تجعل “حزب الله” يأمل بألا يتعنّت الحريري لمدة طويلة. فالحزب لا يخفي رغبته في مشاركة المسؤولية مع شخص مطواع قليل الشروط مثل الحريري، كما أن الحزب يعلم جيداً أن “مكافحة الفساد” عنوان طوباوي لا يقوى أحد على السير به، فيما الحلول الناجعة والسريعة موجودة في الخارج، خصوصاً لدى الدول الخليجية والغربية التي ترتاح في التعاطي مع قلّة من المرشحين الى ترؤس الحكومة، على رأسهم وأفضلهم بالنسبة للحزب اليوم هو الحريري. لكن لا يبدو أن حسابات الحزب ورهاناته تتوخى الدقة، فهو في سباق محموم مع الوقت، خصوصاً مع تفاقم الاحتجاجات الشعبية في إيران التي نشبت لأسباب معيشية مشابهة لما حصل في لبنان، وهي مرشحة إلى مزيد من التفاقم بعد توسّع رقعة الاحتجاجات في أغلب المدن الإيرانية وسقوط ما يزيد عن 200 قتيل. أضف الى هذا، أن المعلومات الواردة من أوساط الحريري تشير إلى أنه لم يعد متحمساً لترؤس الحكومة كما في بدايات الثورة.
“حزب الله” لا يخفي رغبته في مشاركة المسؤولية مع شخص مطواع قليل الشروط مثل الحريري
تنقل مصادر من أجواء اجتماع رئيس الحكومة المستقيل بأعضاء المكتب السياسي في “تيار المستقبل” يوم الإثنين الفائت، أن طول أمد الأزمة بات يخفّف من شهيته بالبقاء على رأس أيّ حكومة، بغض النظر عن شكلها. بل ربما سيخفّف أيضاً من شهيته في البقاء على الأراضي اللبنانية، لإدراكه المسبق أن الأزمة في بلادنا قاربت خط الـ”لا عودة”، وأن انكفاء الناس أو إخماد الثورة بأي وسيلة لن يجدي نفعاً و”كلما أطفأوها في مكان ستستعر في آخر”، نقلاً عن لسان الحريري بحسب من حضر الاجتماع… وهذا كله يقول صراحة إن لعبة شراء الوقت ليست في صالح “حزب الله”… إلا إذا قرر المواجهة في الشارع، وهو ما رأيناه مؤخراً في العراق وبدأنا نلمسه هنا منذ يومين!