صباح كل يوم، يرفع جميل سماعة هاتف المؤسسة التي يملكها لبيع الزجاجيات والأدوات المنزلية ليتّصل بمحل الصيرفة في آخر الحي، ليعرف سعر صرف الدولار الأميركي. جميل الذي يستورد البضائع من الصين بالدولار الأميركي ويبيعها لزبائنه بالليرة اللبنانية، يرفض المصرف الذي يتعامل معه أن يمدّه بالعملة الصعبة منذ نحو شهرين. ولهذا فهو مضطر إلى أن يلاحق السعر الأدنى يومياً ليجمع الدولارات الى حين استحقاق موعد التحويل أو الدفع، طالما أن الصرافين والتجار ما عادوا يعتمدون سعر الصرف الرسمي الفولكلوري الذي يحدده مصرف لبنان بنحو 1510 ليرات لبنانية.
لكن هل فكّرنا يوماً في من يحدّد سعر صرف الدولار في “السوق السوداء” الذي يتتبّعه جميل صباح كل يوم؟ ولماذا ننام على سعرِ صرفٍ ونصحو على سعرٍ آخر؟ بل ما هي الآلية التي تحكم عملية تحديد سعر الصرف ومن هي الجهات التي تقف خلفها؟
الإجابة السريعة والكلاسيكية التي قد نتلقاها عن سؤال كهذا هي: “العرض والطلب”. لكنّ هذا الجواب بدوره يستتبع سؤالاً آخراً: من يحدّد العرض والطلب وكيف؟
موقع “أساس” تواصل مع أحد الصرّافين في بيروت وسأله عن تفاصيل مازالت مبهمة وملتبسة لدى أغلب الناس
قد يكون حجم التجارة المتواضعة التي يديرها جميل قادراً على أن يغطيه محل صيرفة أو أكثر على مستوى المنطقة حيث يقيم، لكن ماذا يفعل التجّار الكبار أصحاب الشركات المنتشرة في المناطق اللبنانية، وكيف يؤمنون هذا الكم من الدولارات لتمويل حركة استيراداتهم الضخمة؟
موقع “أساس” تواصل مع أحد الصرّافين في بيروت وسأله عن تفاصيلٍ ما زالت مبهمة وملتبسة لدى أغلب الناس. كشف الصراف أنه مِثل النّاس العاديّين يستقصي عبر الهاتف عن سعر الصرف كل صباح، يتصل بزملائه الصرافين فتأتي “التعليمة” صباح كلّ يوم من مصدر مختلف. مرّات كثيرة يكون مصدرها بيروت، مرّات طرابلس أو البقاع وغالباً الضاحية الجنوبية وتلك الشمالية، حيث مراكز الشركات التجارية والصناعية الكبيرة. وتابع أنّ حجم مؤسسات الصيرفة وقدرتها السوقية (حجم السيولة) وعلاقاتها العامة هي عوامل تحدّد مدى قدرتها على قيادة السوق.
وبالتالي فإنّ هذه العوامل تساعدها في أن تكون مصدراً لتحديد السعر اليومي. فالصرّافون الكبار، (عددهم محدود نسبياً وعرفنا منهم على سبيل المثال شركة وهبي في منطقة بيروت وشركتي شمس واللقيس في منطقة البقاع)، يتواصلون مع هذه الشركات التي تسعى، بسبب الأزمة، إلى تأمين الدولارات من السوق وليس من المصارف، والأخيرة ترفض مدّها بالدولارات. تماما مثل صديقنا جميل، لكن على مستوى أكبر بكثير. إذ إنّ حجم الكتلة النقدية المطلوبة من التاجر هي التي تفرض سعرها، فكلما كان الرقم كبيراً عليه أن يقدّم إغراءات أكبر، لأنّها تسرّع في عملية “ضبّ” السيولة من أيادي الصرّافين.
روى الصرّاف أنّ هؤلاء التجار هم غالباً من عمالقة مستوردي المشتقات النفطية، أو كارتيلات الأدوية والمواد الغذائية أو الإلكترونيات. يقول أحدهم لصرّاف كبير ذي صيت ذائع على سبيل المثال: “أنا بحاجة الى 5 ملايين دولار خلال أسبوع، وأدفع 2550 ليرة لبنانية للدولار الواحد”. يطلق هذا الصراف “التعليمة” الصباحية بسعر 2500 ليكون هامش 50 ليرة لبنانية ربحه الصافي. تنتشر هذه “التعليمة” بين الصرّافين الذين هم أدنى منه قدرة مالية، كالنار في الهشيم من دون أن يعرفوا بالضرورة من هو مطلقها ولا حتى شخصية الزبون. وكلما انتقلت من صراف الى آخر أدنى منه قدرة مالية، بات السعر الصرف أقلّ لأن كلّ واحد منهم يحتفظ بهامش ربحي بسيط بدوره. تُثبَّت الأسعار بين الصرافين على الهاتف ويجري التسليم والتسلّم في نهاية النهار إن كان الأمر مستعجلاً، أو في موعد لاحق يحددونه فيما بينهم.
[START2] في لبنان هناك 3 شركات مخصّصة لشحن الأموال هي مكتّف وبوغوس وفايد [END2]
أخبر الصرّاف موقع “أساس” بأنّ هذه اللعبة محفوفة بالمخاطر وتكبّدهم في مرات كثيرة خسائر فادحة، كما أنّها في المقابل قد تدرّ عليهم أموالاً وفيرة. وأضاف: “في بعض الأحيان يحصل الزبون الخفي على رأس المال المرجو فيتوقف الطلب خلال ساعات قليلة، فيمسي كل من اشترى بسعر الصرف المرتفع، مضطراً لأن يحتفظ بما لديه من دولارات إلى حين بلوغ السعر السقف نفسه من جديد، وذلك حتى يقزّم الصرّاف هامش خسارته وإلا أكل الفرق رأسماله!
يقدّر، في ختام الحديث معه، أنّ الأزمة سببها “جشع المصارف التي أخفت دولاراتها عن العملاء”، من أفراد وتجّار منذ بدايات الأزمة، ويقول إنّها “في بعض الحالات نقلت هذه الدولارات إلى الخارج خوفاً عليها”.
سألناه: “كيف تنقلها ولمصلحة من؟ أجاب: “في لبنان هناك 3 شركات مخصّصة لشحن الأموال هي مكتّف وبوغوس وفايد… اسألوها أيّ مصارف كانت زبائنها منذ 17 تشرين الى اليوم؟”.