كان يا ما كان في قديم الزمان، رجلٌ ومملكةٌ وصولجان.
كان يريد أن يجرف خصومه. أن يقلب الطاولة. أن يذهب إلى سوريا “لكي يعود الشعب السوري إلى سوريا كما عاد جيشها”. أن يرفع عدد المنتسبين إلى حزبه “الذي صار قريباً من 40 ألفاً، إلى 50 ألفاً في 2020”. أن يحاسب خصومه باعتبارهم فاسدين. أن يتجاوز عرف التوافق لأنّه “أصبح سببا لوقف الحلول عندما تملك الأكثرية”.
وقف على منصّة “13 تشرين”، قرب قصر عمّه، والد زوجته، رئيس الجمهورية ميشال عون، وخاطب خصومه بعجرفة وأنف مرتفع “كما الماء نحن، نجرفكم في لحظة لا تتوقعونها، إن بقيتم منتظرين عند حافّة النهر مرور جثتنا”.
كان منتشياً بقوّة السلطة، بعنفوان الواقف أمام آلاف النساء والرجال، يحملون صوره، يهتفون بما يريدهم أن يهتفوا، وينصاعون له بالكامل، باعتباره الزعيم المُفدّى.
هو الصهر المدلّل، وزير الخارجية، ورئيس أكبر تكتّل نيابي، والورقة السريّة لدى حزب الله، كان واقفاً في منطقة الحدت، في ذكرى 13 تشرين الأوّل، العزيزة على قلوب العونيين، وكان يقول بفخرٍ لا يمكن مداواته: “لا تنسوا أننا أحفاد جبابرة حفروا الجبل بإبرة الصبر وفتتوا الصخر ليجعلوا الأرض تنبت زرعا وتنبت رجالا كأبطال 13 تشرين”.
كان يهدّد خصومه، ويتشاوف أمام مناصريه. وهذا ترفٌ نادراً ما يتيسّر لمن هم في سنّه، أو في موقعه الوزاري، أو النيابي. لكنّه، هو، كان يعرف أنّه يستطيع أن يقول ما يريده. وختم مخاطباً عمّه، رئيس الجمهورية: “اليوم الذي تشعر فيه أنك لم تعد تستطيع أن تتحمل، نطلب منك أن تضرب على الطاولة ونحن مستعدون لقلب الطاولة”.
وما أدراك ما قلب الطاولة: “نحنا منطلع على ساحة قصر الشعب أحسن ما نكون جالسين على أحد كراسيه، وأنت بترجع تتصرف متل العماد عون، يمكن أحسن من الرئيس عون”.
كان يا ما كان.
ولكن، بعد واحدٍ وعشرين يوماً، ثلاثة أسابيع، خرّ كلّ هذا الكبرياء.
مئات آلاف اللبنانيين، في الشوارع، منذ 17 تشرين الأول وحتّى اليوم، جعلوا ريش الديك الذي كان يلبسه، أقرب إلى ريش طاووس، ينفش نرجسياً، دون فعالية. شبّه لكثيرين أنّه كان ديكاً، بعرفٍ أحمر، ورأس يختال بين الحشود، ويترأّسها، فوق مزبلة الوهم السلطوي. لكنّ التظاهرات والاحتجاجات صوّبت الصورة أكثر.
كلّ ديك سلطة يصير طاووساً في لحظة الثورة. الريش مسألة نسبية.
نبدأ من صوته، الذي انخفض، من عينيه اللتين كانتا تبرقان فرحاً وقوّة، وباتتا تبحثان عن قشّة سياسية يتمسّك بها: “إنتبهوا لأن أمامنا أياما صعبة وطويلة”، قال في خطاب 3 تشرين الثاني.
صار أكثر واقعيةً. هذا الذي كان يريد محاسبة الفاسدين / خصومه، بات يعترف بالفشل: “نعترف بأننا فشلنا بالاصلاح بالتراضي لأنّ بين الفاسدين شبكة مصالح كانت أقوى من قدرتنا السياسية وحدها، ولكن معكم نستطيع أن نفككها”.
إنتقل من الهجوم إلى الدفاع، وإلى الاختباء في دور الضحية، بعدما كان يلعب دور البطل: “نتعرض لحملات موجهة ضدنا، بدأها الناس الطيبون “بكلن”، وأنهاها المحركون الأساسيون فينا وحدنا، وانتقلنا من كلن “لوحدن” لأن الهدف من الأساس هو إسقاط العهد وحذفنا السياسي”.
هذا الذي يملؤه الخوف، وربما الجبن، يقول مغنّجاً المتظاهرين ضدّه: “أنا تابعتكم لحظة بلحظة وسمعت صوتكم ورأيت الحماس بعيونكم. ارى نفسي فيكم، بالغضب الطالع من حناجركم…”.
وختم خطابه الثاني، متوجهاً إلى “ماما”. هذا الذي كان يريد محو من يعارضه في الرأي، راح، مثل طفل تعرّض للتنمّر، يشكون لوالدته: “أعتذر منك إذ بسببي طالك الأذى وأنت لا ذنبَ لك”.
يستعطف الناس، ينتقل بكثير من الاستخفاف بمشاعر المشاهدين وعقولهم، إلى دور المُعتدى عليه، بعدما كان يريد “معس” من يواجهونه.
هو اللحظة المكثّفة لصورة السلطة في لبنان. تكثيفٌ في جسد شخصٍ واحد، إنتقل خلال واحدٍ وعشرين يوماً فقط، من حاكمٍ بأمره، إلى مسؤول سياسي يساوم على مقعده الوزاريّ بعد أن كان سيد تسمية الوزراء، علّه يبقيه على قيد السياسة، لينتهي به الأمر منبوذاً، من نوابٍ في كتلته تركوه، أبرزهم عديله شامل روكز، وزميله نعمة افرام، ومنبوذاّ من أخت زوجته، ميراي عون، وعرضةّ للشتم العلنيّ، ولاحتقار الناس له ولوالدته ولعائلته كلّها.
هو مسؤول لبناني بين تشرينين، من وزير ملَك، إلى ذليلٍ هلَك.
كان يا ما كان في قديم الزمان، صهرٌ، وجمهور غاضبٌ، وجثّة سياسية ينهشها غضب الناس، كلّ الناس.