الخصخصة = تحميل اللبنانيين الانهيار بدل المصارف

مدة القراءة 7 د

عادت مسألة الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص إلى الواجهة من بوابة مشروع الموازنة الذي أحالته وزارة الماليّة إلى رئاسة مجلس الوزراء، والذي تضمّن بنوداً تطلب من جميع المؤسسات والإدارات العامة والمختلطة العمل على تزويد الدولة بجردة عن أصولها العقاريّة وغير العقاريّة ووجهة استعمالها الحاليّة.

هذه البنود لم يكن من المفترض أن يتم تفسيرها كتمهيد لمشاريع الخصخصة للتعامل مع الانهيار الحاصل، لولا أنّها ذكّرت الجميع بمحاولات قامت بها وزارة الماليّة منذ نحو سبعة أشهر، للقيام بمسح لأصول الدولة وعقارتها وتقديم مقترحات “لكيفيّة الإستفادة منها”. لكنّ تلك المحاولات جرى تجميدها في ذلك الوقت بانتظار مصير المفاوضات بين الحكومة من جهة، وصندوق النقد والمصارف والدائنين الأجانب من جهة أخرى، بالنظر إلى الإشكاليات التي تحيط بملف خصخصة العقارات والمؤسسات العامّة في هذه المفاوضات، وفي ملف توزيع الخسائر ككل. ولذلك ذهبت بعض التحليلات إلى اعتبار “الجردة” التي طلبتها الموازنة مجرّد التفاف يمهّد لمسار الخصخصة، ولإعادة إحياء محاولات وزارة الماليّة السابقة.

منذ دخول البلاد مستنقع الانهيار المالي، سمع لبنان الرسالة نفسها على نحو متكرّر من صندوق النقد والبنك الدولي ومراكز الأبحاث والدراسات، مفادها أنّ فكرة تحميل دافعي الضرائب كلفة إنقاذ المصارف والنظام المالي باتت مسألة غير مقبولة وفقاً لمعايير السياسات الاقتصاديّة الدوليّة، وخصوصاً بعد الأزمة الماليّة العالميّة التي انفجرت عام 2008.

بمعنى آخر، على المصارف أن تضع خلفها فكرة بيع أصول الدولة لتحميل المجتمع خسائر الانهيار الحاصل، فيما يمكن النظر إلى نماذج الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص لاحقاً كوسيلة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبيّة على المدى الطويل من دون أن يكون ذلك أحد أبواب توزيع الخسائر الماليّة، ومن دون أن يكون أحد بنود خطة التعامل مع الانهيار.

منذ دخول البلاد مستنقع الانهيار المالي، سمع لبنان الرسالة نفسها على نحو متكرّر من صندوق النقد والبنك الدولي ومراكز الأبحاث والدراسات، مفادها أنّ فكرة تحميل دافعي الضرائب كلفة إنقاذ المصارف والنظام المالي باتت مسألة غير مقبولة

ومع ذلك، لم تخرج فكرة بيع بعض أصول الدولة، أو على الأقلّ استثمارها بالشراكة مع القطاع الخاص وفقاً لصيغ متنوّعة، من نطاق البحث في أيّ من الخطط المطروحة للنقاش منذ تشرين الأوّل 2019. خطّة الحكومة المستقيلة التي جرى إعدادها من قبل شركة “لازارد” تضمنّت باباً خلفياً لهذا الموضوع، من خلال الحديث عن تأسيس شركة لإدارة الأصول العامة، على أن تتملّك هذه الشركة أسهم مؤسسات الدولة المربحة وموجودات الدولة العقاريّة، تمهيداً لإعادة هيكلتها وتنظيم عمليّة خصخصتها. أما هدف الشركة، فليس سوى استعمال عوائدها لإعادة تكوين رساميل المصرف المركزي. مع العلم أنّ تلك الخطّة طرحت هذه المسألة كبند إضافي لتوزيع الخسائر، فيما ركّزت الخطة إلى حدّ بعيد على حجم الاقتطاع المطلوب من رساميل المصارف والمصرف المركزي كجزء من استراتيجيّة التعامل مع الخسائر.

جمعيّة المصارف لم يعجبها قدر الخسائر الكبير الذي حمّلته خطة الحكومة لرساميلها، كما لم يعجبها مقاربات الخطة الحكوميّة لكيفيّة احتساب هذه الخسائر. ولذلك وضعت الجمعيّة خطة مضادة تضمّنت فكرة تأسيس صندوق سيادي يضم ما يقارب 40 مليار دولار من الأصول العقاريّة ومؤسسات الدولة. على أن يكون هذا الصندوق بإدارة مصرف لبنان، ليكون بديلاً عن فكرة شركة إدارة الأصول العامة التي طرحتها خطة الحكومة.

لاحقاً، وفي جولتها الباريسيّة على المسؤولين الفرنسيين، ركزت مقاربات جمعيّة المصارف كثيراً على عقارات الدولة بوصفها أحد الأبواب التي يمكن اللجوء إليها للتعامل مع الخسائر الناجمة عن الانهيار المالي.

في كل الحالات، يبدو من الواضح في دراسة عمل عليها “معهد عصام فارس” أخيراً أنّ ثمّة مبالغة كبيرة في ما يخص الأرقام التي يتم تداولها، بالنسبة إلى قيمة موجودات الدولة العقاريّة والاستثماريّة التي يمكن توظيفها في مشاريع الخصخصة أو الشراكة مع القطاع الخاص. فالدراسة التي فصّلت قيمة المؤسسات العامة المدرّة للأرباح، وقيمة الموجودات العقاريّة التي يمكن التصرّف بها، خلصت إلى أن قيمة كل هذه الموجودات لا يمكن أن تتخطى مستوى الـ13 مليار دولار في أكثر السيناريوهات المتفائلة، في حين أن هذه القيمة يمكن أن تتدنّى إلى حدود الـ6 مليارات دولار فقط إذا أخذنا أرقام أكثر تحفّظاً. مع العلم أن حالة الانهيار الحاصل في سعر الصرف، وتردّي الظروف الأمنيّة والسياسيّة، يرجّح سيناريو التقديرات المتحفّظة إذا حصلت عمليات الخصخصة في ظل الظروف الحاليّة، بالنظر إلى انعدام جاذبية السوق اللبناني حاليّاً بالنسبة للمستثمرين الأجانب.

لاحقاً، وفي جولتها الباريسيّة على المسؤولين الفرنسيين، ركزت مقاربات جمعيّة المصارف كثيراً على عقارات الدولة بوصفها أحد الأبواب التي يمكن اللجوء إليها للتعامل مع الخسائر الناجمة عن الانهيار المالي

باختصار، لا يوجد أي واقعيّة في الأرقام التي سوقّتها جمعيّة المصارف، والتي طرحت 6.6 أضعاف هذا المبلغ كقيمة يمكن تخصصيها من موجودات الدولة للصندوق السيادي.

أما الأهم هنا فهو أنّ فكرة استعمال موجودات الدولة لإطفاء الخسائر تتناقض مع متطلبات الحل، على مستوى التعامل مع الدائنين الأجانب. فأصحاب سندات اليوروبوند الأجانب، باتوا لاعباً أساسياً في المعادلة، نظراً لحاجة الدولة إلى موافقتهم على أي خطة ماليّة أو إنقاذيّة قبل إعادة هيكلة الدين العام، وهؤلاء لن يوافقوا حكماً على خطة ستتضمّن تخفيض الدولة لملاءتها الإئتمانيّة عبر بيعها مجموعة من موجوداتها المدرّة للأرباح لسدّ التزاماتها لأطراف محليّة كمصرف لبنان، كما تطلب جمعيّة المصارف. أما من ناحية صندوق النقد، الذي يطلب لبنان قروضاً منه اليوم، فلا يجد منطقاً في منح قروض لدولة تصرّ على تبديد جزء من أموالها العامة – في هذه الحالة عائدات الخصخصة – لتخليص قطاعها المصرفي من تبعات الانهيار، بدلاً من تحميل المصارف تبعات قراراتهم الاستثماريّة.

إقرأ أيضاً: المصارف تطرد المودعين: التهرّب من “تكوين السيولة”!

الإشكاليّة الكبرى اليوم تكمن في أن الحديث عن الخصخصة لا يتوازى اليوم مع أي خطوات فعليّة لتطوير آليات الشفافيّة والمحاسبة في القطاع العام، وخصوصاً في مجال التلزيمات والمناقصات والصفقات التي تعقدها الدولة. وبذلك يصبح مسار الخصخصة بأسره مهدداً بالتحوّل إلى مجرّد باب من أبواب عقد الصفقات التي يتحاصص من خلالها أقطاب النظام السياسي مجدداً خيرات الدولة، دون أن تحقق الدولة فعلاً المردود الذي ينبغي أن يتم تحقيقه مقابل بيع هذه الموجودات.

ولعلّ غياب شهيّة المستثمرين الأجانب للاستثمار في لبنان اليوم، باستثناء بعض المرافق الحيويّة، يعزّز الهواجس من أن تتحوّل عمليّة الخصخصة إلى بازار محلّي من هذا النوع.

أما أهم ما في الموضوع فهو أنّ هذا النوع من الخطوات لا يتوازى اليوم مع نظرة متكاملة لكيفيّة توزيع الخسائر بشكل عادل وشّفاف، ما يعني أنّ النتيجة ستكون تحميل اللبنانيين كلفة الانهيار من خلال بيع أصول الدولة، خصوصاً إذا كان الهدف من الخصخصة هو التعامل مع خسائر النظام المالي بالتحديد. وهكذا ستكون الخصخصة مجرّد باب من أبواب الغرف من المال العام مجدداً، بعد أن تسبّبت عقود من الفساد وغياب الرؤية الماليّة بالأزمة الحاليّة.

مواضيع ذات صلة

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…

لبنان بين “وصاية” صندوق النّقد وتسهيلات “البريكس” (1/2)

أثارت الأزمة الاقتصادية المعقّدة في لبنان مناقشات حول البدائل المحتملة لصندوق النقد الدولي، حيث اقترح البعض أن تتحوّل البلاد إلى “البريكس” كمصدر لدعم التعافي. وبالنظر…

لبنان على القائمة الرمادية: إبحار المصارف في حالة عدم اليقين(2/2)

بعدما عرضت الحلقة الأولى من التقرير، تداعيات إدراج لبنان على القائمة الرمادية، تتناول الحلقة الثانية الإجراءات التفصيلية التي ستترتب على هذه الخطوة، سواء في ما…