في طرابلس بات واجباً الفرز بين واقعين:
الأوّل: أنّ مدينة الفقراء هي المرآة الأصدق لعجز السلطة المتمادي منذ عقود، و”انتفاضتها” حتّى وسط قرار الإقفال العام، هو أقل المتوقع. وإن قُدّر يوماً للسلطة السياسية التي أدمَنت الإجرام بحق مواطنيها أن تُدفن فلا يليق حفر “قبرها” سوى في طرابلس.
الثاني: دخول مجموعات طفيلية على الخطّ لحرف الاحتجاجات عن مسارها وإيصال رسائل سياسية. لكن لم يكن يفترض أن يشكّل هذا الأمر مفاجأة للقوى الأمنية والعسكرية التي خَبِرت هذه التدخلات الشاذة أقلّه من 17 تشرين وجرّ. وبالأساس كانت تملك ما يكفي من معطيات عن تحرّكات وأعمال تخريب وشيكة ستحصل في طرابلس.
المشاركون في أعمال التخريب والحرق لا يزالون قيد المتابعة الأمنية من جانب الجيش وشعبة المعلومات. وتفيد المعطيات أن أكثر من موقوف ثبت تلقيهم أموالاً لم تتجاوز أحياناً الـ25 الف ليرة. وأمس أوقف الجيش أربعة مشتبهاً بهم، من ضمنهم عبد.ن.ق (من الشمال)، الذي ورد اسمه على لسان بعض الموقوفين كـ”موزّع” للمال. ويجري التثبّت من الجهات التي حرّضتهم وأمّنت لهم المفرقعات والقنابل اليدوية و”الماسكات” المضادة للقنابل المُسيّلة للدموع.
وتقدّر أوساط أمنية أنّ “هامش التحرّك لأي مجموعات من الآن وصاعداً بقصد خلق أمر واقع في الشارع يخدم أجندات سياسية لم يَعد مُتاحاً على خلفية الإجراءات الأمنية الاستثنائية التي اتخذها الجيش في اليومين الماضيين، فيما قوى مكافحة الشغب والقوة الضاربة في شعبة المعلومات لا تزال تتمركز داخل السراي منعاً لمحاولات اقتحامها”. وكان لافتاً أمس أعمال التحصين التي شهدها محيط السراي.
المشاركون في أعمال التخريب والحرق لا يزالون قيد المتابعة الأمنية من جانب الجيش وشعبة المعلومات. وتفيد المعطيات أن أكثر من موقوف ثبت تلقيهم أموالاً لم تتجاوز أحياناً الـ25 الف ليرة
وفيما لا تزال التساؤلات قائمة حول خلفية اتهام الحريري للجيش “بالوقوف متفرّجاً على إحراق السراي والبلدية” ومن بين السطور اتهام الجيش بتلبية رغبة رئيس الجمهورية.
تنفي مصادر مطلعة هذا الأمر مؤكّدة أن “بيان الحريري سياسي، وقائد الجيش لا يأتمر بأحد بل يتصرّف وفق ما تمليه المصلحة العامة ومصلحة العسكر”.
وتتساءل مصادر مطلعة: “هل كان المطلوب جرّ الجيش الى مواجهات مع الناس خصوصاً في منطقة كالشمال تشكّل الخزان الشعبي للجيش وعسكرييه بغالبيتهم ينتمون إلى البيئة نفسها التي خرج منها المحتجون، وذلك في مقابل وقوف الآخرين، لحسابات سياسية وطائفية، متفرّجين فقط؟ ومن همّ المستشارون الذين أقنعوا الحريري بنظرية المؤامرة التي لا أساس لها من الصحة؟”.
وفيما تفيد المعلومات أنّ الحريري بات لديه مقاربة مختلفة عمّا حدث في طرابلس بعد وقوفه على بعض المعطيات التي لم يكن في “جوّها” خصوصاً في منحاها العسكري والعملاني، فإن الرئيس نجيب ميقاتي وحتى النائب فيصل كرامي تسلّحا، وفق المطلعين، بتصوّر مغاير أحرَجَ الحريري الذي سارع ومن دون اكتمال الصورة لديه إلى الهحوم بشكل قاسٍ وغير مألوف على الجيش، فيما وقف ميقاتي وكرامي في موقع مختلف تماماً من باب الحرص، كما تقول أوساطهما، على رمزية الجيش ورصيد تضحياته ودوره الأساسي في مرحلة بالغة الحساسية.
أمّا حيال ما تردّد عن عتب الحريري على قائد الجيش بسبب التشكيلات المرتبطة بمديرية المخابرات فيقول مطلعون: “هذه التشكيلات طُبخت في اليرزة ولم يراعَ فيها مطلب أي جهة سياسية، وإذا كان بعض القريبين من الحريري قد أزعجتهم لغايات شخصية، فهذا لا يبرّر إطلاق النار بهذا الشكل على الجيش”.
هل كان المطلوب جرّ الجيش الى مواجهات مع الناس خصوصاً في منطقة كالشمال تشكّل الخزان الشعبي للجيش وعسكرييه بغالبيتهم ينتمون إلى البيئة نفسها التي خرج منها المحتجون؟
بعد صدور بيان الحريري جرت اتصالات بين اليرزة وبيت الوسط، وقام موفد من الحريري بزيارة العماد جوزف عون، ما تكفّل بتوضيح موقف المؤسسة العسكرية من مجريات الأيام الماضية. كما أنّ الاجتماع الأمني الذي عقد في وزارة الداخلية يوم الجمعة ظهّر المعادلة الآتية: “لا الجيش وحده قادر على الإمساك بكل مفاصل طرابلس لما يتطليه ذلك من عديد غير متوافر وبحكم الانتشار الأفقي للجيش في كامل المناطق، ولا قوى الأمن بوارد الدخول على “خط طرابلس” كونها وفق التقسيم الذي اعتمد بعد تحرّك 17 تشرين مولجة بأمن بيروت، ومكلّفة حالياً من القيادة بحماية السراي بكل الأسليب المتاحة”.
وبروز مشكلة التنسيق مجدداً بين الأجهزة الأمنية تطرح تساؤلات حول السبب الفعلي الذي أدّى إلى التخلي تدريجاً عن سياسة أرساها الوزير السابق نهاد المشنوق منذ تعيينه وزيراً للداخلية عام 2014. وهي كانت قائمة على تعزيز التنسيق والتعاون التقني والعملاني بين مختلف الأجهزة الأمنية وإنشاء غرفة عمليات أمنية مشتركة في وزارة الداخلية، ما أسفر عن تقدّم ملحوظ في سياق العمليات الأمنية الاستباقية وتفكيك الخلايا الإرهابية النائمة.
إقرأ أيضاً: قوى الأمن تتّهم الجيش بالتقصير… وطرابلس تحت السيطرة الأمنية
وكان يمكن لهذا التنسيق لو بقي قائماً، كما يجب، أن يؤثّر في مجرى العديد من المواجهات منذ انتفاضة الشارع في 17 تشرين. لكنّه توقف بعد خروج المشنوق من الداخلية قبل عامين.
ويقول مطلعون في هذا السياق: “لا تزال المنافسة واحتكار المعلومة والتمريك المتبادل وأحياناً الاعتبارات السياسية هي السِمات الأساسية في عمل الأجهزة، فيما التنسيق العملاني يمكن أن يؤدّي إلى نجاحات أكبر وتلافي وقوع أحداث أمنية خطيرة كما حصل في طرابلس مؤخراً”.