هذا النصّ هو متابعة للقراءات التي تقدّم بها كل من الكريمين الدكتور رضوان السيد والأستاذ أحمد الأيوبي، والتي أخذت طابع نقاش أفكار سبق أن طرحتها في مقالة تحت عنوان “حزب الله والمسار المعقّد نحو اللبننة”، وكانت مجرد رصد موضوعي لهواجس المستوى السياسي داخل الحزب وكيفية تثمير الفعل العسكري – المقاوم لإسرائيل – والإقليمي، في إطار مصالح “محور المقاومة الإيراني” و”فائض القوّة” الذي يمتلكه، وما يدور من جدل داخل بيئته الشعبية التي باتت تشكل أحد المكوّنات الأساسية في التركيبة اللبنانية العددية والطائفية والسياسية والاقتصادية، وآليات ترجمة هذه التغييرات والتطوّرات. تطوّرات بدأت تتراكم بوضوح منذ أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي مع الإمام موسى الصدر وبعد تأسيس “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”، داخل منظومة الحكم اللبناني، حتّى لو أدّت إلى إعادة النظر بالصيغة التي قام عليها هذا النظام منذ عام 1943 وامتدادها مع إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920.
إقرأ أيضاً: ردّاً على فحص وقصير: الجنون “الهويّاتي” لن يتلبنن
في دردشة مطوّلة مع رئيس البرلمان اللبناني الأسبق السيد حسين الحسيني نُشِرَت على موقع “العربية نت” في آذار 2016، قال إنّ الإمام الصدر حاول كثيراً قبل الانتقال إلى تشكيل كيان لإدارة شؤون الطائفة الشيعية، “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”، أن يُقنع الأطراف المعنية في الدولة اللبنانية بضرورة أن يكون هذا المكوّن جزءاً من دار الإفتاء الاسلامي، إلاّ أنّه اصطدم بموقف “ممتنع” وناصح له بالذهاب إلى تأسيس مؤسسة خاصّة بهذه الجماعة. فكان تشكيل المجلس في جانب منه، كأحد خلفيات وجهة نظر الإمام الصدر، مدخلاً لتحسين شروط الشراكة الشيعية في الدولة اللبنانية وتحصيل بعض حقوقها في الإدارة وتحصينها كمكوّن لا يقلّ في حقوقه وواجباته عن المكوّنات الأخرى، بما يعزّز مبدأ العيش المشترك وتحمّل المسؤوليات الوطنية بالتساوي. وهذه الرؤية تبلورت في ورقة عام 1977 صدرت عن “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” لحلّ الأزمة اللبنانية. ورقة، في النقاط التي تضمنتها، تُعتَبَرَ حاملة للروح الحقيقية التي جاء بها اتفاق الطائف سنة 1989، خصوصاً في جانب “مدنية” النظام اللبناني.
وبالعودة إلى أزمة المكوّن الشيعي مع الدولة والنظام في لبنان، يسعى حزب اله للتأكيد اعتماده على رؤية الإمام الصدر للدور الشيعي داخل التركيبة اللبنانية، وكلّ أدبياته السياسية تحاول الانطلاق من هذه الرؤية ومحاولة بلورتها على أرض الواقع.
الإمام الصدر حاول كثيراً قبل الانتقال إلى تشكيل كيان لإدارة شؤون الطائفة الشيعية، “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”، أن يُقنع الأطراف المعنية في الدولة اللبنانية بضرورة أن يكون هذا المكوّن جزءاً من دار الإفتاء الاسلامي، إلاّ أنّه اصطدم بموقف “ممتنع” وناصح له بالذهاب إلى تأسيس مؤسسة خاصّة
إذ لا يمكن، بحسب وجهة نظر الحزب، أن يستقرّ الوضع في لبنان قبل، ومن دون، مشاركة الجميع. وبرأيه أنّ ما هو قائم على مستوى الصيغة اللبنانية يُعتبر ظالماً للجماعة التي يمثّلها. أو كما يرغب البعض القول إنّه يصادرها في محاولة لإلغاء الصوت المختلف وتسهيل مهمة الحزب وعملية محاصرته، وأنّ المدخل إلى رفع هذا الظلم يتأتّى عن طريق فضّ الاشتباك وطمأنة الجميع بأنّهم باقون لكن بأحجامهم الحقيقية، وإلاّ فإنّ الأمور قد تذهب إلى ما هو أخطر.
الإشارة التي جاءت في كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الأخيرة، حين تحدّث عن أزمة “ثقة” بين رئيس الجمهورية ميشال عون وبين رئيس الوزراء المكلف سعد الدين الحريري، باعتبارها تُؤخر تشكيل الحكومة، تبعتها إشارة أكثر حساسية وتصب في إطار ما ورد سابقاً. وهي كشفت عمّا يريد الحزب أن يذهب إليه في مستقبل التركيبة اللبنانية عندما أكّد “الوقوف إلى جانب بيئة المقاومة المهدّدة والمستهدفة والتي تدفع الأثمان”، وأنّ “المقاومة بالنسبة لأهالي جنوب لبنان ليست عبئاً عليهم إنّما درع لهم”. وهي إشارة تنقل أزمة الثقة حول التشكيل إلى أزمة ثقة حول الصيغة اللبنانية، خصوصاً لدى هذا المكوّن الذي يمثّله الحزب، والشعور بأنّ المطلوب منه هو البقاء في الدائرة التي رسمت له منذ بناء الكيان وأنّ المطلوب منه فقط البقاء في الهامش مع الاستمرار بدفع الأثمان.
لا شكّ أنّ أيّ تسوية سياسية داخلية على الصعيد اللبناني، أو إقليمية بين إيران والولايات المتحدة، أو على مستوى الصراع مع إسرائيل، ستحوّل موضوع السلاح و”فائض القوة” إلى عبء على الحزب ما لم يستطع ترجمتها وتحويلها إلى إنجازات على المستوى السياسي، بما يضمن له الانتقال إلى لعب دور مباشر وواضح في التركيبة اللبنانية لا يكون معها بحاجة إلى البقاء خلف الكواليس “الشفافة”. من هنا جاء تأكيده بأنّ إيران “لا تبيع أو تشتري في الملفات ولا تفاوض مع الأميركيين بدلاً عن شعوب المنطقة أو أحد من حلفائها”، وأنّها “أبلغت الأوروبيين بأنّها غير معنية بالتفاوض عن اليمنيين أو غيرهم”. بما فيهم اللبنانيين.
كشفت عمّا يريد الحزب أن يذهب إليه في مستقبل التركيبة اللبنانية عندما أكّد “الوقوف إلى جانب بيئة المقاومة المهدّدة والمستهدفة والتي تدفع الأثمان”، وأنّ “المقاومة بالنسبة لأهالي جنوب لبنان ليست عبئاً عليهم إنّما درع لهم”
وقد يكون المأخذ أو الاتّهام الذي يوجّه إلى حزب الله بأنّه لا يوافق أو يعارض اتفاق الطائف، على الرغم من كل ما يخرج عن مواقف المستوى السياسي بتأكيد حرصهم على تطبيقه وتنفيذه. إلاّ أنّ العقدة الرئيسية في تعطيله أو عرقلة تنفيذه تأتي من “أزمة الثقة” التي تهيمن على رؤية الحزب. إذ ترى أنّ “الطائف” أعاد تكريس المعادلة التي قام عليها الكيان والنظام اللبناني مع تعديلات في دوائر الصلاحيات داخل آليات تقاسم السلطة بين مكوّنين سيطرا تاريخياً على الدولة والنظام على حساب المكوّنات الأخرى، خصوصاً الشيعي. من هنا يرى أنّ أيّ حلول لما يعانيه لبنان من صراعات وانقسامات، خصوصاً تلك المتعلقة بطموحاته السياسية (الحزب) تمرّ من بوابة إعادة تشكيل النظام وتحوّله إلى شريك فاعل يتناسب مع الدور والنفوذ وحجم “التضحيات” التي قدّمها من أجل لبنان بالإضافة إلى ترجمة حجمه الإقليمي في المعادلة اللبنانية.
إقرأ أيضاً: حوار مع حسن فحص عن الحزب: تفصله عن اللبننة مسافة طويلة جداً
كلّ هذا على الرغم ممّا في هذه التوجّهات من مخاطر وعلى الرغم مما تسبّبه من مخاوف لدى الشركاء الآخرين من المكوّنات الأخرى بأن يتغلب الجزء على الكلّ، إن كان داخل المكوّن الشيعي لصالح الحزب دون غيره، أو بين المكوّنات الوطنية لصالح الشيعة على حساب الآخرين، بما يهدّد بإعادة إنتاج آليات التفجير الداخلي واستعادة التجارب التاريخية التي قامت على تغليب جزء من اللبنانيين على حساب الآخرين… لذا فإنّ إحدى آليات الابتعاد عن هذا الخطر والخروج من المأزق الذي يهدّد استقرار لبنان، هو العمل على بناء الثقة بين المكوّنات اللبنانية على أسس وطنية وتشاركية واضحة تسمح للأقلية اللبنانية والإقليمية بالابتعاد عن التفكير الأكثري والتغلّبي، ويساعد الأكثرية على الخروج من الشعور الأقلوي وترميم دورها الواسع داخلياً وإقليمياً، بحيث تعيد تكريس مبدأ العيش المشترك والتعايش بين جميع المكوّنات وتعيد للبنان موقعه ودوره وتبعده عن التحوّل إلى تعايش بين أقلّيات تحمل في داخلها إمكانيات التفجير في لحظات اهتزاز المعادلات الإقليمية.