إجراءات جمركيّة غريبة لمصلحة وكلاء استيراد السيارات الجديدة، بحجّة حماية البيئة. هذا هو الذي يواجه لبنان هذه الأيام، بعنوان برّاق، ومضمون خبيث يفرّط بالضرائب باسم البيئة.
فما هي القصة؟
من المعروف أنّ لبنان لا يملك حتّى اللحظة البنية التحتيّة اللازمة للسيارات الكهربائيّة، من ناحية المحطات اللازمة لتعبئتها أو صيانتها، أو حتّى قطع الغيار الأساسيّة. ومع ذلك، قرّر لبنان السير بإجراءات إلغاء الرسوم الجمركيّة ورسوم الاستهلاك الداخلي على السيارات الكهربائيّة الخصوصيّة إلغاءً تامّاً، مع إلغاء رسم التسجيل والميكانيك عن السنة الأولى، إذا كانت السيارة مخصّصة للنقل العمومي.
أمّا السيارات الهجينة، التي تعمل بمحرّك تقليدي ومحرّك كهربائي في الوقت نفسه، فخُفّضت رسومها الجمركيّة ورسم الاستهلاك الداخلي الخاص بها إلى حدود 20% إذا كانت سيارات خصوصيّة، وإلى 10% إذا كانت سيارات عموميّة، مع إعفائها أيضاً من رسوم التسجيل والميكانيك عن السنة الأولى.
ومنذ إقرار هذه البنود، تحوّلت هذه الإعفاءات إلى شكل من أشكال تشويه السياسة الجمركيّة وإساءة استعمال مندرجاتها. فشراء هذه الأصناف من السيارات الجديدة من معارض الوكيل، كسيارة “تويوتا برويوس” مثلاً، بات أوفر من شراء السيارة المستعملة محليّاً ولو كانت من الطراز نفسه. فالسيارة التي عداد محرّكها صفر لا تلحقها رسوم جمركية، فيما سيارة من نفس الطراز والسنة المصنعة فيها، مستعملة، وعدّاد ما مشته من كيلومترات يلامس 500، فعليها أن تدفع كامل الرسوم الجمركية. باتت الجديدة “أوفر” نتيجة كل هذه الإعفاءات، التي تشمل أيضاً إعفاءً من رسوم التسجيل والميكانيك عن السنة الأولى بالنسبة للسيارات العموميّة، والتي يدفعها مشترو السيارات المستعملة عند التسجيل والمعاينة.
من المعروف أنّ لبنان لا يملك حتّى اللحظة البنية التحتيّة اللازمة للسيارات الكهربائيّة، من ناحية المحطات اللازمة لتعبئتها أو صيانتها، أو حتّى قطع الغيار الأساسيّة
وتُحتَسب كلفة الجمرك ورسم الاستهلاك اليوم ضمن سعر السيارات المستعملة المستوردة قبل 2018، أي قبل إقرار الإعفاءات الجمركيّة هذه، لأنّ المشتري الأساسي سدّد هذه الرسوم عند الشراء في ذلك الوقت.
وبذلك، باتت هذه الإجراءات الجمركيّة تشجّع مبدأ استيراد السيارات الجديدة، وتساهم في توسّع أسطول السيارات الخاصّة والعموميّة التي تسير على الأراضي اللبنانيّة، وهو ما يناقض الهدف البيئي الأساسي من وجودها. ولا بدّ من التنويه أنّ المستفيدين الأساسيين من كل هذه التدابير هم، في المحصّلة، أصحاب وكالات استيراد السيارات الجديدة، الذين تشير مصادر عدّة إلى دورهم في الضغط لإقرار هذه الإعفاءات الجمركيّة.
التهرّب الضريبي
وتكمن الإشكاليّة الأخرى الناتجة من هذا الإجراء في غياب فعاليّته البيئيّة. فالسيارات الكهربائيّة تحتاج في العادة إلى محطات شحن متوفّرة بكثافة في محيط التجمّعات السكنيّة، خصوصاً أنّ هذا النوع من السيارات يحتاج إلى إعادة شحن بعد السير لمسافة تراوح بين 100 و300 كلم. وبغياب هذه البنية التحتيّة، فمن المستبعد أن يشجّع هذا القرار على استيراد السيارات الكهربائيّة، ولكنّه في المقابل قد يشجّع على استيراد السيارات الهجينة، التي تقلّ نسبة فعاليّتها في لبنان من ناحية تقليص استهلاك المحروقات، بالنظر إلى الزحمة الخانقة داخل المدن وطبيعة البنية التحتيّة فيها التي لا تسمح بالسير لمسافات طويلة دفعة واحدة من دون عوائق. فهذه السيارات الهجينة تحتاج – لتحقق فعاليتها المنشودة – إلى مسافات طويلة لإعادة الشحن التلقائي، خصوصاً أنّ مصدر طاقتها الكهربائيّة هو حركة السيارة نفسها. ومع غياب الفعاليّة البيئيّة، تكون هذه الإجراءات الجمركيّة باباً من أبواب التهرّب الضريبي المشرّع لا أكثر.
ثمّة سبب آخر لانعدام فعاليّة هذا الإجراء من الناحية البيئيّة. فبسبب هذه الإعفاءات، بات شراء السيارات الهجينة ذات المحرّكات الكبيرة متاحاً للكثير من الأشخاص الذين كانوا يلجأون في السابق لشراء السيارات الأصغر حجماً، التي تستهلك في العادة قدراً أقلّ من المحروقات. وبذلك باتت نتيجة الإجراء زيادة استهلاك المحروقات بدل خفضه، وزيادة انبعاثات الغازات الناتجة عن هذا الاستهلاك، ولو من خلال السيارات الهجينة.
تكمن الإشكاليّة الأخرى الناتجة من هذا الإجراء في غياب فعاليّته البيئيّة. فالسيارات الكهربائيّة تحتاج في العادة إلى محطات شحن متوفّرة بكثافة في محيط التجمّعات السكنيّة، خصوصاً أنّ هذا النوع من السيارات يحتاج إلى إعادة شحن بعد السير لمسافة تراوح بين 100 و300 كلم
تجربة الأردن
وكانت الأردن قد شهدت ظاهرة مماثلة سابقاً بالطريقة نفسها، حين قرّرت تطبيق إعفاءات مماثلة على استيراد السيارات الهجينة، فكانت النتيجة نزوع المستهلكين نحو شراء السيارات الهجينة الأكبر حجماً والأكثر استهلاكاً للمحروقات، للاستفادة من الحسومات الضريبيّة التي منحتها الحكومة لهذه السيارات.
وكان يُفترض بهذا النوع من الإجراءات أن يترافق مع استراتيجيّة متكاملة، تكفل وجود استثمارات في البنية التحتيّة لهذا النوع من السيارات، للتأكّد من أنّ هذه الإعفاءات ستؤدّي في المحصّلة إلى استيراد السيارات الكهربائيّة، لا إساءة استعمالها لمصلحة أصحاب الوكالات الحصريّة النافذين من خلال التركيز على السيارات الهجينة والمربحة. وكان يُفترض أيضاً أن ترتكز هذه البنود على دراسات تحدّد جدوى هذه الإعفاءات من الناحية البيئيّة، وتدرس فعاليتها في ضوء حالة شبكة الطرقات في لبنان وطبيعتها. لكنّ النتيجة كانت إجراءات شوّهت السياسة الجمركيّة وقلبت موازين العرض والطلب بين السيارات المستعملة والجديدة.
إقرأ أيضاً: العزلة المالية الآتية: ودّعوا الشراء عبر الإنترنت.. والطعام؟
وكما هي حال كل شيء في لبنان، دائماً ما يستفيد البعض من هذا النوع من التخبّط. وفي حالة السيارات الهجينة ليس هؤلاء المستفيدون سوى أصحاب الوكالات الحصريّة الذين سعوا بكل الطرق لتمرير هذه البنود في الموازنة، وحضّروا رساميل خاصّة للاستثمار في استيراد هذا النوع من السيارات وتقليص حصّة سوق السيارات المستعملة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تشجيع الاستيراد على حساب تجارة السيارات المستعملة، بما فيها السيارات المستعملة الصديقة للبيئة، يناقض فكرة تقليص الحاجة إلى العملة الصعبة المطلوبة للاستيراد، خصوصاً أنّ إقرار إجراءات الموازنة جاء في أحرج الفترات من الناحية الماليّة، أي في الفترة التي سبقت الانهيار المالي الكبير.