كان تناول جوانب السياسة المسيحية من جهات مختلفة سابقًا، لا بدّ أن يصبّ باتّجاه التيار الوطني الحرّ، أو أن تتّجه الأنظار سريعًا إلى ميشال عون. هذا الواقع تغيّر بشكل كامل.
باتت تفصل عون عن المسيحيين مساحة شاسعة. والدليل في استطلاعات كثيرة أُجريت ورصدت رقعة الاتّساع التي لم ولن تتوقف، لعلّ أبرزها بشهادة مدير “ستاتيستكس ليبانون”، الذي قال مرارًا إنّ الاستطلاعات تؤكّد تفوّق “القوات اللبنانية” مسيحيًّا منذ أشهر.
في الوجدان المسيحي، أصبح عون حريصًا على حقوق جبران باسيل ومستقبله السياسي، وكلّ دعائيات حقوق المسيحيين أظهرت زيف ادّعاءاتها. وفقًا للقواعد المنطقيّة، عندما ينهمك المسؤول في توفير المصلحة الشخصية أو العائلية، تنهار المرتكزات السياسية لديه. عون هو الأكثر تجسيدًا لهذه القاعدة، لأسباب كثيرة.
قبل أيام، طرأ موقف جديد له أبعاد كثيرة، وسينطوي على تحوّلات كبيرة في المرحلة المقبلة. في الوقت الذي كان رئيس الجمهورية ورئيس أكبر كتلة نيابية، يوفر الغطاء المسيحي لحزب الله، بات اليوم بلا أيّ غطاء أو التفاف مسيحي حوله. وصل به الأمر إلى طلب الحصول على دعم روسي، تحت شعار “حماية حقوق المسيحيين والأقليات في الشرق”. والرسائل التي وصلت إلى موسكو ركزت على المطالبة بتشكيل حكومة، يحصل فيها رئيس الجمهورية على الثلث المعطل، إلّا أنّ روسيا رفضت ذلك، ولم تخفِ استياءها من ممارسات عون وباسيل السياسية. إذ تعلم روسيا أنّ باسيل لا يمكن أن يكون في صفّها بالاستناد إلى تجارب كثيرة.
باتت تفصل عون عن المسيحيين مساحة شاسعة. والدليل في استطلاعات كثيرة أُجريت ورصدت رقعة الاتّساع التي لم ولن تتوقف، لعلّ أبرزها بشهادة مدير “ستاتيستكس ليبانون”، الذي قال مرارًا إنّ الاستطلاعات تؤكّد تفوّق “القوات اللبنانية” مسيحيًّا منذ أشهر
في الداخل المزاج المسيحي كأنّه قطع العلاقة الوجدانية التاريخية مع رئيس الجمهورية ميشال عون. مسار طويل من التطورات والأحداث يشي بذلك، وأسباب اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، ومالية.
اجتماعيًّا: وصل التيار الوطني الحرّ إلى الذروة. ليلة صدور نتائج الانتخابات النيابية في العام 2018، بات يمتلك الأكثرية النيابية، معه رئاسة الجمهورية، صاحب أكثر تحالف قوّة بين أركان السلطة، مع حزب الله. وكرّس ذلك في عملية تشكيل الحكومة. لهذه الذروة معانٍ سوسيولوجية كثيرة في وجدان المسيحيين، الذين فوّضوا عون وباسيل قيادتهم. وبالتالي لا يمكن أن تنفع بعد اليوم نظرية “ما خلّونا”. خصوصًا أنّ أيّ حزب عندما يصل إلى ذروة سلطته، سيكون بعدها عرضة إلى مراكمة الخسائر.
وسياسيًّا:
أ- أيقن المسيحيون أنّ عون وباسيل لم ينجحا سوى في تكرار خطاب لازمهما منذ أيام المعارضة، ورافقهما خلال وجودهما في السلطة، ما أدى إلى إسقاط النظرية العونية كلها. وذلك تجلّى منذ أكثر من سنة إلى اليوم، من خلال انفجار التظاهرات في الشارع المسيحي، والتي وصلت إلى مرحلة متقدمة جدًّا ضد طروحات عون وباسيل.
ب- التناقضات التي طبعت مسيرة العهد العوني، من التحالف مع المستقبل وإنتاج ترويكا إلى جانبه وجانب حزب الله، وبالتالي إنهاء مفاعيل كتاب “الإبراء المستحيل”، وتقاسم كامل للمصالح سياسيًّا واقتصاديًّا. وبعد وقوع الخلاف مع الحريري، استعاد التيار الوطني الحر خطابه القديم، بمهاجمة الحريريّة، لكنه في الوقت نفسه لا يزال يفاوض لتحسين شروط دخوله إلى الحكومة.
ت- العلاقة مع حزب الله لم تُثبت نجاعتها في تحسين أوضاع المسيحيين. بل استنزفتهم وأزهقت مقدراتهم وعلاقاتهم التاريخية في الداخل والخارج، على مذبح الصراعات الإقليمية والدولية. فشعروا بأنّهم انسلخوا عن محيطهم الغربي والدولي، وما نسج أيضًا على الصعيد العربي، لصالح المطالبة بالتحالف المشرقي، أو التوجه شرقًا. وهو خيار دمّر كل المرتكزات المسيحية في بنية النظام اللبناني.
أيقن المسيحيون أنّ عون وباسيل لم ينجحا سوى في تكرار خطاب لازمهما منذ أيام المعارضة، ورافقهما خلال وجودهما في السلطة، ما أدى إلى إسقاط النظرية العونية كلها
تلك المرتكزات لها ارتباطات متعدّدة، اقتصاديًّا وماليًّا، وحتى أمنيًّا وقضائيًّا. فصارت العونية السياسية بالنسبة إلى المسيحيين تعادل كل ما له علاقة بتدمير دورهم بفعل تصفية ما تبقى من دولة وكيان ومؤسسات. وهم في البداية والنهاية مؤسّسو هذا الكيان، ودورهم من دوره. وهي خسارات تتراكم على وقع التشبّث العوني بممارسة السلطة وصناعتها، على حساب الدولة، من بينها:
1 – خسارة القطاع المصرفي وانهياره. وفتح معركة ضروس مع حاكم مصرف لبنان بهدف محاولة باسيل السيطرة على هذا المرفق، وبالتالي السيطرة على القطاع، مع العلم أنّ قانون النقد والتسليف يضع حاكم المصرف المركزي فوق كل الاعتبارات، وتلك حماية مستمدة من أمجاد المارونية السياسية.
2 – خسارة قطاعَيْ الاستشفاء والتعليم، وهما قطاعان من أساسيات المرتكزات المسيحية.
3 – خسارة القضاء بكل تفرعاته، لحسابات شخصية ومصلحية، فدمّرت هذه السلطة من خلال عرقلة التشكيلات القضائية، وقضم صلاحيات مجلس القضاء الأعلى.
4 – خسارة غطاء بكركي، والتاريخ يشهد أنّ كل رئيس للجمهورية يتعارض مع توجهات بكركي ينتهي به الأمر منبوذًا أو خارجًا من السلطة بغير السياق الطبيعي.
5 – سيكون لخسارة غطاء بكركي انعكاس كبير مسيحيًّا في المرحلة المقبلة، وهو سيكون مرتبطًا حكمًا بنتائج أيّ انتخابات ستجري.
6 – خسارة المؤسسة العسكرية، وهي المؤسسة الأم التي يعتبر ميشال عون أنّها هي التي أوصلته إلى ما وصل إليه. فها هو باسيل يحاول بذل كل الجهود لإضعاف قائد الجيش، ولو اقتضى الأمر الذهاب إلى الفوضى. أما موقف قائد الجيش جوزيف عون، فيمثّل القطع الأخير بين المؤسسات وبين رئيس الجمهورية. إذ لم يشهد لبنان في تاريخه أن يتخذ قائد للجيش موقفًا معارضًا لمواقف رئيس الجمهورية. حتّى ميشال عون لم يفعلها أيام الرئيس أمين الجميل.
إقرأ أيضاً: عون لا يريد الحريري.. والحزب لا يريد الحكومة
تاريخيًّا بالعودة إلى حقبة الرئيس بشارة الخوري، وأحداث الثورة البيضاء ضدّه وضدّ شقيقه “السلطان سليم”، اتخذ قائد الجيش فؤاد شهاب يومها موقفًا معارضًا لخيارات الخوري، لكنه بقي على الحياد وحمى نفسه بموقف، بأنّه لا يمكن التدخل مع التجّار لوقف العصيان وفكّ الإضراب وفتح أبواب محالّهم. فدفع الرئيس بشارة الخوري ثمنًا باهظًا نتيجة أفعال شقيقه السلطان سليم.
بعد أيام على تسلّم ميشال عون رئاسة الجمهورية، بدأ كثر في لبنان يشبّهون جبران باسيل بالطامح الذي يسعى إلى إعادة تكرار تجربة السلطان سليم. حتى أنّ كثرًا أطلقوا عليه لقب “السلطان باسيل”، الذي سيُدفّع عون أثمانًا باهظة بسبب استماتته في توفير مصالح باسيل ومستقبله السياسي. بينما يرفض المسيحيون أن تسدّد الفاتورة على حسابهم.