تنحية ميشال عون.
دعوة تعرّجت الدروب بمَن طرحها منذ تفلّت الموجة الشعبية المنتفضة خريف العام 2019 ثمّ محاصرتها ثمّ انكماشها فتضعضها. وهي دعوة طرحت من مواقع مختلفة. من تحت ومن فوق.
ثلاثة أمور واضحة تجّاهها:
أوّلاً: لم تكفل هذه الدعوة سابقاً بتحريك الشارع بشكل نوعي وهادر تحت هذا الشعار. بل ساهم طرحه عملياً في تسريع ظهور التفسّخات في الحركة الشعبية لـ17 تشرين، لمجرد أنّ قسماً من المنتفضين اعتبر أنّ طرح مثل هذا الشعار ضرورة بديهية تفرض نفسها من بعد النجاح بإسقاط حكومة “التسوية” الباسيلرية (الباسيلو – حريرية)، وفي ظلّ انهماك مكوّنات “الباسيلرية” في تراشق الاتّهامات عمّن تسبّب في إحباط هذه التسوية ومن أرهقها بالحمولة الزائدة ومن خان عهدتها، في مقابل عدم نجاح حركة الانتفاض في الإجابة على سؤال: ما الذي ينبغي القيام به بعد استقالة الحكومة؟ وهي الحركة التي أرهقت نفسها سريعاً بحمولة زائدة عبثية، بسجنها لنفسها في إطار “ثورة” لا تمتلك معظم شروطها، لأنّ كلّ ثورة لا “أمير حديث” لها (المفهوم لأنطونيو غرامشي) ستكون لا محالة لا ثورة، تبحث عن أميرها في خيالات الأمراء الذين تثور عليهم.
ظهر حينها طرح التعبئة بقصد حمل رئيس الجمهورية على الاستقالة، وحصل بالفعل تجمهر على مفرق قصر بعبدا آنذاك، خجول بالمقارنة مع وهج الساحات المنتفضة في الأيام التشرينية المشهودة. لعبت كلمات ميشال عون دوراً محفّزاً بامتياز لإقبال الناس على الساحات من أجل إسقاط الحكومة “الباسيلرية”. أما بعد أن طارت تلك الحكومة، ودخلنا في معمعة “حكومة تكنوقراط” والترهات الأخرى، فإنّ دعوة الناس للنزول ضدّ عون مباشرة والمطالبة بتنحيته لم يتوفّر لها الحد الأدنى من الحافز الشعبي.
لماذا؟
بادئ ذي بدء لأنّ هذه الدعوة حصلت كمن يشعر بالنعاس في سهرة بدأ يخفت صخبها، ويصرّ مع ذلك أن يطيل السهرة حتّى الفجر، كي تُحتسب عليه سهرة حتّى الصباح. في اليوم التالي يمكنه أن يشعر أنّه ليته انسحب من السهرة حين بدأ الناس ينسحبون منها الواحد تلوَ الآخر، وباشر النعاس بمباغتته. بدت الدعوة للتوجّه إلى بعبدا شيئاً من هذا القبيل. إطالة سهرة تراجع صخبها بشكل واضح بعد الساعة الواحدة فجراً، حتى إشراقة الشمس. بدت إطالة بلا طائل، اقتراح يجهد نفسه في المرافعة عن أحقّيته، في وقت يجد مسوّغه فقط في تحوّله كبداهة تحريكية شاملة.
وأكثر، بدت الدعوة كما لو كانت تصحيحياً نوستالجياً لما حصل في 14 آذار 2005، يوم تفرّقت الجموع بعد اليوم الاستقلالي المشهود من دون أن تزحف على قصر بعبدا. في التجربة الآذارية نُسِجت أسطورة كاملة حول هذا، كما لو أنّ الناس يومها لم تدبر على هذا الشيء بسبب من فيتو البطريرك الراحل بطرس صفير على إسقاط رئيس الجمهورية الممدّد له في الشارع يومها. هذا تفسير محض أسطوري. لم يحصل هذا الشيء يومها، لأنّ معظم المسيحيين المشاركين في 14 آذار 2005، لو حصل وتخيلناهم يزحفون على قصر بعبدا آنذاك، ما كانوا ليقبلون إلاّ برجعة القصر لمن فارقه يوم 13 تشرين 1990، إلى العماد عون.
لم تكفل هذه الدعوة سابقاً بتحريك الشارع بشكل نوعي وهادر تحت هذا الشعار. بل ساهم طرحه عملياً في تسريع ظهور التفسّخات في الحركة الشعبية لـ17 تشرين، لمجرد أنّ قسماً من المنتفضين اعتبر أنّ طرح مثل هذا الشعار ضرورة بديهية تفرض نفسها من بعد النجاح بإسقاط حكومة “التسوية” الباسيلرية (الباسيلو – حريرية)
“المسألة – عون” هي التي حالت مسبقاً دون التفكير العملي في إسقاط إميل لحود بالشارع يومها. تخيّل رئيساً يسقط في لبنان بالشارع، وبهمّة مسيحيين ومسلمين في وقت واحد وبالفعل، ثم يقبل المسيحيون في اليوم التالي وصول شخص لا شعبية لديهم، وتتحمس لها طوائف أخرى، وعندهم في المقابل شخص مرتفع الشعبية بشكل مزمن، مثل العماد عون. هذا الخلاف بين المكوّنات السياسية المتفّقة على شعارات “حرية وسيادة واستقلال” يومها، وهي الشعارات العونية بامتياز في التسعينيات، هذا الخلاف على شخص البديل عن لحود، هو الذي كان ليعطّل مسبقاً أيّ توجه إسقاطي للحود في الشارع. ليس لأنّه كان خلافاً شخصياً فقط، بل لأنّه في طابعه الشخصي هذا كانت تتكثّف داخله كل تناقضات التركيبة اللبنانية التي كابر الخطاب المهيمن على تجربة 14 آذار على الاعتراف بها، وعاد الخطاب “المديني” بعد 17 تشرين فـ”بصق” الخطاب نفسه، بالمكابرات نفسها، وفي اللحظة نفسها التي أخذ فيها “مشخصاتية” هذا الخطاب بالتبرؤ من 14 آذار، والتبرؤ من قياداتها من دون مراجعة منطقها المكابر بامتياز على التناقضات الطبقية كما الطائفية للتركيبة اللبنانية.
يجرّنا هذا إلى مناقشة الأمر الثاني: “نظرية الغطاء المسيحي”.
كلما استحضر أحد شعار “استقالة عون” جاءه الردّ بصيغتين:
واحدة ترفض البحث في الأمر انطلاقاً من رفض الفراغ، بما أنّ انتخاب رئيس جديد في حال شغور المنصب الأوّل لم تكن أساساً مهمّة سهلة في كلّ التجارب الماضية، وعاش البلد شغورين رئاسيين أحدهما لستّة أشهر والثاني لعامين ونصف، هذا قبل الانهيار الحالي، فكيف بالنسبة إلى الكربجة الشاملة الحالية التي لا نجد معها رجاءً حتّى لولادة حكومة جديدة.
وهذا المنطق تبنّاه عون عندما تصاعدت مجدداً دعوة استقالته في أعقاب انفجار المرفأ واستقالة حكومة دياب، أجاب يومها في مقابلة متلفزة بالفرنسية: “هذا مستحيل لأنّ هذا سيؤدّي إلى فراغ في السلطة.. الحكومة استقالت.. لنتخيّل أنّني سأستقيل.. من سيضمن استمرار السلطة؟”. أن يتترّس الرئيس بهذا المنطق لا يعني في الوقت نفسه أنّ المعارضين لاستمراره في المنصب الأوّل ينبغي أن لا يفاتحوا بعضهم البعض حول هذه النقطة بالتحديد.
الثاني: هي الصيغة التي تدأب عليها بكركي: الإصرار على أنّ موضوع الرئاسة في لبنان له مسالكه المؤسساتية. كثيراً ما أجد هنا وهناك من يعيب على هذا الموقف “طائفيته” كما لون أنّ السياسة أساساً هي شيء غير الطائفية في لبنان. المشكلة أنّ هذا الأمر تحديداً ليس طائفياً بالمعيار الضيق، بل طائفياً بالمعيار الواسع، لأنّ إسقاط الرئيس من خارج المسار المؤسساتي هو في أقلّ الإيمان مسألة تطرح نفسها بالنسبة إلى التوازنات المتخيّلة والممأسسة بشكل أو بآخر بين الطوائف.
تخيّل رئيساً يسقط في لبنان بالشارع، وبهمّة مسيحيين ومسلمين في وقت واحد وبالفعل، ثم يقبل المسيحيون في اليوم التالي وصول شخص لا شعبية لديهم، وتتحمس لها طوائف أخرى، وعندهم في المقابل شخص مرتفع الشعبية بشكل مزمن، مثل العماد عون
طبعاً، سيسأل سائل في المقابل: “ولماذا يُطاح برئيس حكومة في الشارع إذاً؟”. وسؤاله أيضاً، في لجة منطق الطوائف، له ما يسوّغه. المشكلة الفعلية أنّنا نضحك على أنفسنا معظم الوقت: نحن أمام تركيبة يُراد فيها تغييب فكرة أنّ هناك رابح وخاسر، وأنّ الانتخابات تفرز رابحاً وخاسراً، وأنّ تعيين الرابح من الخاسر وإتاحة المجال لخاسر اليوم أن يكون الرابح غداً هو في أساس اللعبة السياسية الديموقراطية.
هي سياسة بلا رابح ولا خاسر كي لا يكون هناك غالب ومغلوب بالتظهير الطائفي للأوضاع: هذا ما يسمّى نظام الكربجة إلاّ إذا.. إلاّ إذا أداره محرّك من الخارج له السطوة على الداخل. نظام صنعه الفرنسيون، لكن أكثر من برع بإدارته هم ضباط الوصاية السورية على لبنان. بعد رحيلهم، هناك تفاوت كبير بين اللاعبين، لكن ليس هناك واحد منهم باستطاعته وراثة الوصي، وتشغيل نظام الكربجة. في الوقت نفسه، تصنع الكربجة تواطؤاً ضمنياً بين مكوّناتها، خصوصاً حين يطاولها ضغط مشترك، من تحت، أو من خارج (ماكرون، ماغنيتسكي).
ثالثاً، نحن ندخل في عام ميلادي جديد.
لكنّ العام الذي يليه، أي 2022، هو عام الاستحقاقات الانتخابية بامتياز، بحسب الروزنامة الدستورية القانونية لها. إذ يفترض العام المقبل أن تكون هناك انتخابات بلدية، ثم انتخابات نيابية، ثم انتخابات رئاسية. وهو ما يفترض، إذا كنّا سنأخذ على محمل الإمكان والواقعية، إمكانية تنظيم هذه الاستحقاقات في مناخات ملائمة، ولو بالمقاييس المحلية المعروفة في انتخابات سابقة، أنّنا سنكون أمام ثلاثة استحقاقات تأسيسية، اجتماعها بحدّ ذاته مزلزل. وسيكون اختباراً فعلياً شاملاً لنظام الكربجة، الذي يفترض، مهما خبت الحركة الشعبية ضدّه، أنّ يبلغ الصدأ فيه مبلغاً إضافياً كلّ صبح وكلّ عشية، فكيف بعد عام ونصف من الآن؟
أيّ طرح حول انتخابات نيابية “مبكرة” أو انتخابات رئاسية “مبكرة” ينبغي أن لا يحاكي في السياسة ما حصل في الميدان.
إقرأ أيضاً: من منعنا من ضرب المصارف.. بدّد أموالنا أيضاً
حول الأموال. فُرِضَ على الناس في أيام تشرين شعار مسوق إعلامياً حول استعادة الأموال المنهوبة، في اللحظة نفسها التي كانت الدولارات تفرّ بكثافة من لبنان. كانت أموالهم الموجودة تكفّ عن كونها موجودة بالفعل، فيما هم يطالبون باستعادة أموال أخرى. الاستعارة هنا هي نفسها الفحوى. يجب أن لا تلهينا شعارات تبكير الانتخابات، رئاسية كانت أم نيابية، عن أنّنا أمام ثلاثة استحقاقات كبرى عام 2022 لا يدري أحد كيف يمكن لنظام الكربجة الذي يزداد تطرّفاً في كربجته أن ينظّم شيئاً آخر سوى.. “تأجيلها”.
السؤال حينها: كيف سُحِبَ البساط مسبقاً عن هذا التأجيل؟
بسحب المطالب المفهومة والتي لها ما يسوّغها، من ضمنها: تنحية كلّ من يتولّى سلطة في الوقت الحال، من دوامة الكربجة نفسها. لأنّها حتّى الآن شعارات تكربج نفسها بنفسها، كجزء من نظام شامل.