كما جرت العادة في الولايات المتّحدة، أصدرت إدارة الرئيس دونالد ترامب في مطلع كانون الأوّل الرؤية الاستراتيجيّة الأميركيّة الجديدة للنظام الدوليّ. تكشف الوثيقة تحوّلاً لافتاً في مقاربة واشنطن لدورها العالميّ التي تتراجع فيها الاعتبارات القيميّة والليبراليّة من أجل منطق المصلحة الصرفة.
حملت الوثيقة تغيّرات نوعيّة على الاستراتيجية التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق جوزف بايدن في سنة 2022، وكانت في اتّجاهها العامّ منطلقة من الرؤية نفسها التي تبنّتها إدارة ترامب في عهده الأوّل والتي ركّزت على الصراع بين الدول الديمقراطية والحكومات الاستبداديّة وتدعيم دوائر الشراكة مع الأطراف التي تتقاسم القيم الليبراليّة الأميركيّة. في تلك الاستراتيجية تمّ الانتقال من سرديّة مواجهة الإرهاب التي هيمنت على الرؤية الاستراتيجيّة الأميركيّة بعد أحداث أيلول 2001 إلى موضوع الصراع مع القوى التسلّطيّة مثل الصين وروسيا والدول “المارقة” الخارجة عن قواعد اللعبة الدوليّة.
في الاستراتيجية الأخيرة أربعة تغيّرات نوعيّة:
- التركيز على الجوار المباشر والمحيط الإقليميّ القريب بدلاً من التحالفات الدوليّة الموسّعة وإدارة الأزمات العالميّة المشتعلة. في هذا السياق، يبرز الاهتمام بالمجال الأميركيّ الشماليّ والجنوبيّ بما يتناغم مع شعار إدارة ترامب “أميركا أوّلاً”، وتتّضح أولويّة المصالح الاقتصاديّة والتجاريّة المباشرة على الاعتبارات السياسيّة الظرفيّة.
يذهب بعض الخبراء إلى أنّ ترامب يعتمد رؤية معدّلة لمذهب “مونرو” الشهير القائم على الانعزاليّة ورفض أيّ تدخّل خارجيّ في القارّة الأميركيّة. إلّا أنّ ترامب ليس انكفائيّاً بالمعنى التقليديّ، بل ينزع إلى سياسة تدخّل انتقائيّ تجمع بين التحرّر من الالتزامات التعدّديّة وتوطيد التحكّم الإقليميّ من منظور المصالح الحيويّة الأميركيّة.
حملت الوثيقة تغيّرات نوعيّة على الاستراتيجية التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق جوزف بايدن في سنة 2022، وكانت في اتّجاهها العامّ منطلقة من الرؤية نفسها التي تبنّتها إدارة ترامب
- القطيعة مع فكرة الوحدة الأطلسيّة التي حكمت العلاقات الأميركيّة – الأوروبيّة منذ مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. وقد قامت هذه الفكرة من قبل على قاعدة البناء الليبراليّ المشترك ومنطق حماية “العالم الحرّ”.
وفق مصطلحات علماء السياسة الأميركيّين، ينزع الرئيس ترامب إلى الخروج من عقيدة “زعامة العالم الحرّ” إلى نمط جديد من التوجّه الاستراتيجيّ إزاء الشركاء الأوروبيّين، أطلق عليه البعض عبارة “الواقعيّة العنيفة” (استخدام القسوة والإكراه لفرض المصالح بدلاً من القيم والمعايير)، وأطلق عليه البعض الآخر مقولة “التبادليّة الاستراتيجيّة” (أي الدفع مقابل الحماية).
في هذا السياق، تشكّكت الوثيقة الأميركيّة الأخيرة في جدوى التحالف مع أوروبا التي اعتبرتها في طور “التراجع الحضاريّ” و”التقهقر الديمقراطيّ”. ما يلاحظ بوضوح هو أنّ الولايات المتّحدة لم تعُد تنظر إلى أوروبا بصفتها القطب الليبراليّ الآخر، وإنّما مجموعة من الأمم والدول القوميّة المتمايزة، ومن هنا اختلاف وتيرة العلاقات معها بحسب المصالح الاقتصاديّة والأمنيّة الأميركيّة.
- الانتقال في العلاقة مع القوى الدوليّة الصاعدة (وبصفة خاصّة الصين وروسيا) من منطق التنافس الشامل إلى منطق التكيّف المصلحيّ وفق الاعتبارات الحيويّة للريادة الأميركيّة. لم تعُد منطقة آسيا – الباسيفيك محور الصراع الدوليّ المستقبليّ بالنسبة للإدارة الأميركيّة، بل يتعيّن الحفاظ فيها على التوازنات الاستراتيجيّة الكلاسيكيّة، بما يقتضي الاعتراف للصين بحقوقها في مجالها الحيويّ الضيّق بما لا يهدّد المصالح الأميركيّة، ودمج روسيا في المنظومة العالميّة لضمان استقرار العلاقات الدوليّة، بدلاً من النظر إليها بصفتها عدوّاً جيوسياسيّاً جديداً.
- الانسحاب النسبيّ من بقيّة العالم، بحيث لم تعُد الولايات المتّحدة طامحة إلى نشر قيم الديمقراطيّة والحريّة في باقي المعمورة، ولا هادفة إلى ضمان الأمن والاستقرار فيها، بل تتّجه إلى العودة لمنطق دوائر النفوذ واحتساب المصلحة والتكلفة في كلّ تدخّل خارجيّ، والتخلّي عن القيم الليبراليّة من منظور القوّة والسيادة والمنفعة.
تراجع الشّرق الأوسط
أين موقع الشرق الأوسط في هذه الرؤية الجديدة في دلالته الواسعة التي تجمع بين العالم العربيّ وتركيا وإيران؟
تراجعت أهميّة الشرق الأوسط نوعيّاً في الرؤية الاستراتيجيّة الأميركيّة الجديدة أمام المجال الحيويّ القريب جغرافيّاً (أميركا الشماليّة والجنوبيّة)، وتخلّت الولايات المتّحدة عن عقيدة “الهندسة السياسيّة وبناء الدول” التي كانت خلفيّة الحروب الطويلة والمدمّرة التي خاضتها في الساحة الشرق الأوسطيّة (العراق وأفغانستان)، وتخلّت أيضاً عن هدف “نشر الديمقراطيّة والحرّية في الشرق الأوسط الكبير” (مشروع الرئيس بوش الابن والمحافظين الجدد).
يتمّ اعتماد منطق التدخّل الانتقائيّ في الرؤية الجديدة، بما يعني حصر الاهتمام بالتهديدات الجذريّة للمصالح الأميركيّة واستخدام العنف عند الضرورة والاحتفاظ بقوّة الضرب السريع وتغليب منطق الشراكة المربحة والتبادل النفعيّ.
غابت في الرؤية الاستراتيجيّة الأميركيّة الجديدة شعارات “الشرق الأوسط الجديد” و”الشرق الأوسط الموسّع”، ولم تعُد الأهداف الليبراليّة والديمقراطيّة موجّهات للقرار الأميركيّ في الإقليم
حسب تعليق الباحث الأميركيّ (من أصل إيرانيّ) وليّ نصر، انتقلت الاستراتيجية الأميركيّة في الشرق الأوسط من فكرة “الزعامة الإقليميّة” إلى فكرة “إدارة الفوضى عن بعد”، بحيث لم يعُد الهدف فرض نظام هيكليّ على المنطقة، وإنّما التقليل من التكلفة الاستراتيجيّة للتدخّل فيها.
اعتبر نصر أنّ ما نعيشه حاليّاً هو انهيار النظام الإقليميّ الذي وضعته الولايات المتّحدة بعد سنة 1991، بما خلّف فراغاً فسح المجال أمام اللاعبين الإقليميّين الذين لم يعودوا يحتاجون إلى مرجعيّة استراتيجية أميركيّة واضحة. وإن كان نصر ينتقد الانسحاب الأميركيّ من الشرق الأوسط باعتباره يفضي إلى تأجيج الاضطراب في المنطقة، يعتبر أنّ الاستقرار الإقليميّ المنشود يتطلّب دمج إيران في الفضاء الشرق الأوسطيّ، مع العلم أنّ إيران في توجّهاتها الحاليّة تتحمّل مسؤوليّة كبرى عن هذا الاضطراب المذكور.
تدخّل انتقائيّ
وجّهت بعض الأقلام في إسرائيل النظر إلى الآثار السلبيّة لسياسة الانسحاب النسبيّ من الشرق الأوسط على علاقات التحالف الوثيق بين واشنطن وتل أبيب، ومن بينها الباحث المعروف بنجامين ميلر الذي لاحظ أنّ الرؤية الاستراتيجيّة الأميركيّة الجديدة وإن أكّدت متانة التحالف الإسرائيليّ- الأميركيّ أعادت تصوّره وفق الإطار الإقليميّ الواقعيّ بدلاً من الاعتبارات الأيديولوجيّة، بما يعني أنّ أمن إسرائيل لا يمكن أن يتحقّق عن طريق الحروب والردع الاستباقيّ، بل عن طريق التوازنات الإقليميّة والتسويات السياسيّة مع الأطراف المحليّة، انسجاماً مع مبدأ إدارة المخاطر بدلاً من إعادة صياغة النظام الإقليميّ.
إقرأ أيضاً: قمّة فلوريدا: نتنياهو يتوثّب للحرب وترامب يجنح للحصار
لقد كان مشروع الرئيس ترامب للحلّ في غزّة مؤشّراً إلى هذا التوجّه الجديد، الذي لا يعني العمل على تسوية نهائيّة وجذريّة للصراع العربيّ – الإسرائيليّ (لا يمكن أن تتمّ دون تحقيق مطالب الشعب الفلسطينيّ في الاستقلال وبناء الدولة الحرّة)، وإنّما إطفاء بؤر التوتّر المشتعلة توصّلاً إلى إطار ملائم لإعادة استئناف مسار السلم المتعطّل.
غابت في الرؤية الاستراتيجيّة الأميركيّة الجديدة شعارات “الشرق الأوسط الجديد” و”الشرق الأوسط الموسّع”، ولم تعُد الأهداف الليبراليّة والديمقراطيّة موجّهات للقرار الأميركيّ في الإقليم، ومن الواضح أنّ الإدارة الجديدة ستمارس في المنطقة خطّ التدخّل الانتقائيّ الذي يعني حصر الاهتمام بدوائر النفوذ الناجعة والحدّ من الآثار المكلفة للفوضى وعدم الاستقرار في الهوامش والأطراف المهملة.
* أكاديميّ وكاتب موريتانيّ له كتب وأعمال منشورة في الفلسفة والفكر السياسيّ، وله أعمال روائيّة منشورة.
