المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

مدة القراءة 5 د

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ اللقاء على أنّه تطوير لآليّة وقف إطلاق النار، لكنّ المشهد الفعليّ هو سباق مع الزمن أمام إنذار إسرائيليّ واضح: نزع سلاح “الحزب” جنوب الليطاني وتفكيك قدراته على تهديد أمن إسرائيل قبل نهاية العام، أو مواجهة حرب ثانية قد تُطيح بما بقي من قدرة لبنان على الصمود.

 

ليست الغاية “سلاماً تاريخيّاً” بقدر ما هي محاولة لوقف واقع الحرب التقنيّة المستمرّ منذ  1948 بين لبنان وإسرائيل. خارطة الطريق المقترحة:

– انسحاب “الحزب” شمال الليطاني وتفكيك قدراته العسكريّة التي يمكن أن تهدّد أمن إسرائيل.

– انسحاب إسرائيل من المواقع الخمسة الباقية.

– تعزيز انتشار الجيش اللبنانيّ وتوسيع صلاحيّات “اليونيفيل”.

تترافق هذه الخارطة مع مفاهيم جديدة للتعاون الاقتصاديّ: الغاز، التبادل الحدوديّ، مشاريع بيئيّة مشتركة وتعبيد الطريق لاتّفاق سلام حين تسنح الظروف عربيّاً، وتحديداً موقف المملكة العربيّة السعوديّة.

“الحزب”، الخارج من حرب 2024 بأثقل جراحه منذ نشأته، يلتزم خيار الدولة مضطرّاً لا اقتناعاً. يدرك أنّ السقف النهائيّ لأيّ مفاوضات يمرّ عبره. لذلك، وعلى الرغم من اعتراضاته الإعلاميّة على “التسرّع” والحذر من التفاوض تحت النار، سمح ضمنيّاً بهذه الخطوة الحكوميّة. فالدولة اللبنانيّة بكلّ واقعيّتها لم تكن لتجلس مع إسرائيل مباشرة من دون موافقة “الحزب”، ولو جاءت بعبارات غير مكتوبة.

باختصار “الحزب” يحتاج إلى هدنة، لكنّه لا يريد أن يدفع ثمنها سياسيّاً أمام جمهوره، لذلك يعبّر عن امتعاض علنيّ ويمنح الضوء الأخضر من خلف الستار.

لبنان يحتاج إلى وقف النار دون أن يدفع كلفة تطبيع داخليّ قد يفجّره من الداخل

طهران في المنطقة الرّماديّة

تخشى طهران، التي ترى في “الحزب” ذراع الردع الأساسيّة في مواجهة إسرائيل، أن يصبح لبنان أقرب إلى سيادته الفعليّة للمرّة الأولى منذ زمن بعيد. حدود هادئة، معادلة أمنيّة مرعيّة دوليّاً ووجود مدنيّ لبنانيّ في الناقورة تعني إضعافاً تدريجيّاً لأدوات الضغط الإيرانيّة. لذلك تتحرّك إيران في المنطقة الرماديّة: رسائل، تحذيرات واحتمال تصعيد محسوب لإرباك المسار قبل أن يتحوّل إلى واقع يصعب التراجع عنه.

لبنان

تحمل القيادة الإسرائيليّة إرث 17 أيّار الفاشل كتحذير دائم: أيّ تسوية لا تنزع فعليّاً قدرة “الحزب” الهجوميّة تعني تأجيل الحرب فقط. مع رأي عامّ متوتّر بسبب صدمة 7 أكتوبر/تشرين الأوّل وإحباط 2006 و2024، يصبح شرط تل أبيب واضحاً: نزع قابل للتحقّق لسلاح “الحزب” جنوب الليطاني وعدم إمكان عودته، وإلّا فالجيش الإسرائيليّ سيستكمل المهمّة بقوّة النار.

لكن، براغماتيّاً، تدرك إسرائيل أنّ “السلام” مع لبنان ليس ضرورة آنيّة ولا مطلباً شعبيّاً. المهمّ هو أمن الحدود. لذلك هدنة موسّعة تحت رقابة دوليّة صارمة قد تكون خياراً أكثر واقعيّة لها من معاهدة سلام كاملة تتطلّب تنازلات رمزيّة غير مستعدّة لتقديمها.

 

دور واشنطن مهمّ جدّاً في تسهيل وتسريع التفاوض. منذ عودته للبيت الأبيض، يرى الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب أنّ الجبهة اللبنانيّة – الإسرائيليّة فرصة مثاليّة لإنجاز دبلوماسيّ جديد يُضاف إلى “اتّفاقات أبراهام” من خلال الضغط على طهران، إعطاء ضمانات لإسرائيل وحوافز إنقاذ اقتصاديّ لبيروت.

لكن يبقى التطوّر الأكثر إرباكاً في المشهد ليس بيروت ولا تل أبيب، بل دمشق. منذ سقوط نظام الأسد وصعود أحمد الشرع إلى السلطة في كانون الأوّل 2024، تغيّر موقع سوريا في معادلة الردع. الدولة التي شكّلت تاريخيّاً رئة نفوذ لإيران في لبنان، تحاول اليوم تثبيت شرعيّة دوليّة بحدود مضبوطة وشراكات اقتصاديّة، وبأقلّ درجات التورّط في مواجهات لا طائل منها.

للمرّة الأولى، يجد لبنان نفسه في سباق خفيّ مع سوريا على من يقدّم “الاستقرار المضمون” لإسرائيل وواشنطن

للمرّة الأولى، يجد لبنان نفسه في سباق خفيّ مع سوريا على من يقدّم “الاستقرار المضمون” لإسرائيل وواشنطن. وهذا بدوره يزيد حساسيّة “الحزب” وإيران لأيّ إنجاز دبلوماسيّ لبنانيّ قد يقلّص دورهما في الإقليم.

الهدوء لا التّطبيع

كلّ ما يدور على الطاولة حاليّاً يوحي بأنّ الهدف الواقعيّ ليس سلاماً شاملاً بل سلام أمر واقع:

– إسرائيل تريد هدوءاً دائماً من دون رمزيّة سلام.

– لبنان يحتاج إلى وقف النار دون أن يدفع كلفة تطبيع داخليّ قد يفجّره من الداخل.

في الحسابات الإسرائيليّة: ترتيبات أمنيّة طويلة الأمد، إضافة إلى نزع خطر “الحزب” عن الحدود، أهمّ بكثير من فتح السفارات والمصافحات. في الحسابات اللبنانيّة: إنقاذ الدولة ومنع الحرب أولويّة تتقدّم على المغامرة بسلام منفرد يكرّر كابوس 1983.

هنا تتشكّل المعادلة:

– تنازلات أمنيّة بلا اعتراف سياسيّ.

– بناء فوائد اقتصاديّة بلا تطبيع رمزيّ.

بهذا الشكل، يمكن للطرفين الادّعاء بأنّهما لا يتراجعان عن ثوابتهما: إسرائيل تحقّق الأمن، ولبنان يحافظ على السرديّة العربيّة، ولا أحد يبدّل علمه ولا عقيدته.

إقرأ أيضاً: ترامب يُقاضي BBC: ترويض أباطرة الإعلام؟

للمرّة الأولى منذ عقود، العوامل الثلاثة التي أفشلت كلّ تسوية سابقة: تفوّق “الحزب” العسكريّ، الفيتو الإيرانيّ، والقرار السوريّ، تراجعت معاً. لكنّ الوقت يضيق وأيّ سوء تقدير قد يعيد الدمار إلى بيروت وصواريخ “الحزب” إلى الجليل.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mouafac

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق…

باريس “تذكّر” بالفصل السابع إذا استمر تمرّد الحزب..

يعود الملفّ اللبنانيّ إلى واجهة الاهتمام الدوليّ من بوّابة باريس، حيث تتكثّف الاجتماعات والاتّصالات بحثاً عن مقاربة جديدة تواكب التحوّلات الأمنيّة والسياسيّة التي يشهدها الجنوب،…