قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة واحدة: إيران عالقة في مأزق عميق. قد تختلف المقاربات في توصيف هذا المأزق وسبل الخروج منه، لكن لم يعُد أحد ينكر وجوده.
بين ترقّب الحرب، جمود المفاوضات النوويّة، تدهور الوضع الاقتصادي وتفشّي الاتّهامات بالخيانة والعمالة على خلفيّة الاختراق الأمنيّ الكبير الذي كشفته حرب الصيف الماضي، تتسع الهوّة بين النظام والمجتمع وتتشنّج علاقات المصالح بين أقطاب السياسة ليصبح مصير النظام نفسه موضع تساؤل.
يطفو إلى السطح صراعٌ كان مكبوتاً بفعل القبضة الحديديّة للمرشد الأعلى. مع تقدّم علي خامنئي في العمر وتراجع حضوره في الفضاء العامّ، تتراخى هذه القبضة تدريجاً، وهو ما يفتح المجال أمام صراع الخلافة وسؤال “اليوم التالي”. تبدو إيران عالقةً في لحظة تاريخيّة متجمّدة مفتقدةً القدرة على التواصل مع الداخل والخارج، بل ومع ذاتها.
في هذا المناخ، تتقاذف النخب الاتّهامات بالمسؤوليّة عن الوصول إلى هذا الدرك، محكومةً بخطوط الصدع التقليديّة بين أصوليّين ومحافظين وثوريّين وإصلاحيّين. غير أنّ هذه التيّارات جميعها تبدو عاجزة عن رؤية “الفيل في الغرفة”. وليس هذا مستغرباً، فمن الصعب على من عاش عقوداً في بطن الفيل أن يدرك أنّ عالمه ذاته هو جوهر المشكلة، وأنّ بداية الحلّ تكمن في تسميتها لا تغطيتها بورقة توت بالية.
يظهر هذا الاستعصاء بوضوح في المقالة التي نشرها وزير الخارجيّة الأسبق محمد جواد ظريف في مجلّة “فورين أفيرز” تحت عنوان: “كيف يمكن لأميركا وإيران كسر الجمود النوويّ والخروج من فخّ الأمننة (Securitization)؟”.
يبلغ التناقض في خطاب ظريف ذروته عند استحضار الحرب العراقيّة – الإيرانيّة
الأمننة عقيدة تأسيسيّة
يتقن ظريف لغة الغرب ويحفظ مفرداته ومفاتيحه عن ظهر قلب. ليست هذه المرّة الأولى التي يحاول فيها إعادة تعليب النظام في قوالب برّاقة أملاً في إعادة تسويق الاتّفاق النوويّ، الذي يعدّه درّة تاج إنجازاته. سبقت المقالة إطلالة لافتة له في “حوار الدوحة” أثارت جدلاً واسعاً آنذاك.
يحاول ظريف في مقالته تقديم إيران بوصفها دولة طبيعيّة اضطرّت إلى انتهاج الأمننة بفعل خطاب أميركيّ – إسرائيليّ عدائيّ. غير أنّ هذا الطرح يتجاهل حقيقة مركزيّة: الأمننة جزء بنيويّ من نظام الثورة الإسلاميّة منذ تأسيسه عام 1979.
عرّفت الثورة، كما صاغها آية الله روح الله الخميني، الدولة بأنّها مشروع عقائديّ عابر للحدود تُرجِم في مبدأ “تصدير الثورة” المنصوص عليه صراحة في المادّة 154 من الدستور الإيرانيّ. هذا المبدأ بطبيعته أمننة شاملة، إذ يفترض وجود عالم معادٍ يبرّر التدخّل في شؤون الآخرين ويُسقط الفاصل بين الدفاع والهجوم.
وعليه، ليس تصوير إيران دولةً أُجبرت على تبنّي مقاربة أمنيّة سوى تعمية على واقع أنّ النظام نفسه عرّف السياسة منذ البداية بوصفها صراعاً وجوديّاً، والدولة قلعة محاصَرة، والمجتمع ساحة تعبئة دائمة.
الأمننة سياسة خارجيّة
لم يبقَ “تصدير الثورة” في حدود الشعار، بل طُبّق في سياسة خارجيّة فعليّة عبر إنشاء شبكات تنظيميّة – عقائديّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ. منذ ثمانينيّات القرن الماضي، شرع الحرس الثوريّ في بناء نموذج نفوذ لا يقوم على العلاقات الدبلوماسيّة التقليديّة، بل على الميليشيات العقائديّة.
في لبنان، أُنشئ “الحزب” ليكون تنظيماً عسكريّاً أيديولوجيّاً مرتبطاً مباشرة بولاية الفقيه لا بالدولة اللبنانيّة. في العراق، وبعد الغزو الأميركيّ عام 2003، أُعيد إنتاج النموذج ذاته. في سوريا واليمن وغزّة، تكرّر النمط نفسه.
في لبنان، أُنشئ “الحزب” ليكون تنظيماً عسكريّاً أيديولوجيّاً مرتبطاً مباشرة بولاية الفقيه لا بالدولة اللبنانيّة
بينما كان ظريف يفاوض مجموعة “5+1” في جنيف ونيويورك، كانت ميليشيات “وزير الخارجيّة الفعليّ” قاسم سليماني تسيطر على دمشق وبغداد وصنعاء وبيروت، وتعبث بأمن دول الخليج. في هذا السياق، تختزل مقالة ظريف هذا النفوذ الذي فجّر المنطقة في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل إلى “سوء فهم” لتصريح مصدر غير مسؤول عن “السيطرة على أربع عواصم عربيّة”.
الأمننة ضدّ المجتمع
لم تتوجّه الأمننة إلى الخارج فقط، بل استُخدمت أيضاً ضدّ المجتمع الإيرانيّ نفسه. منذ الأيّام الأولى للثورة، أنشأ النظام أجهزة موازية للدولة كالحرس الثوريّ، “الباسيج” والمحاكم الثوريّة التي أعدمت الآلاف من رفاق الميدان لتأمين النظام الجديد لا الدولة.

تعاملت هذه الأجهزة منهجيّاً مع أيّ معارضة سياسيّة أو حراك اجتماعيّ أو مطلب اقتصاديّ بوصفه تهديداً أمنيّاً أو امتداداً لمؤامرة خارجيّة. كان الإصلاحيّون في طليعة الضحايا والملاحَقين وعلى رأسهم قادة الثورة الخضراء مير حسين موسوي ومهدي كروبي والرئيس الأسبق محمّد خاتمي، ومنهم ظريف نفسه الذي واجه ضغوطاً متكرّرة دفعته إلى الاستقالة أكثر من مرّة.
في هذا الموضع، يصيب ظريف جزئيّاً: نعم، إيران تعاني من مرض الأمننة المزمن. لكنّ هذا المرض لم ينتقل بعدوى “المعضلة الأمنيّة” الخارجيّة، بل جرى إنتاجه في مختبرات النظام العقائديّة، وما سجن إيفين إلّا شاهد عليها.
لم يبقَ “تصدير الثورة” في حدود الشعار، بل طُبّق في سياسة خارجيّة فعليّة عبر إنشاء شبكات تنظيميّة – عقائديّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ
حين تنحني الأيديولوجية أمام الأمن
يبلغ التناقض في خطاب ظريف ذروته عند استحضار الحرب العراقيّة – الإيرانيّة. على الرغم من الخطاب العقائديّ المتشدّد، تجاوزت طهران شعاراتها عندما اقتضت مصلحتها ذلك. المثال الأبرز هو شراء إيران أسلحة من إسرائيل في عمليّتَي Seashell وIran-Contra. فيما قرع ظريف مسامع الحضور في جلسته في “حوار الدوحة” مطالباً بتعويضات تصل إلى مئة مليار دولار ثمناً لدعم دول الخليج لصدّام حسين، غابت الإشارة إلى مآسي ملايين السوريّين الذين قتلتهم براميل ميليشياته على مدى أكثر من عقد.
لم تكن الأيديولوجية يوماً سوى أداة تعبئة استخدمها النظام لحشد التأييد، محاولاً تسجيل القضيّة الفلسطينيّة وكالةً حصريّةً لقوى المحور، بينما تصرّفت النخب ببراغماتيّة تلامس الانتهازيّة حين تعلّق الأمر بالبقاء. وعليه، يتجاهل تصوير الصراع مع إسرائيل اليوم صراعاً وجوديّاً مطلقاً أنّ النظام نفسه أسقط هذا الادّعاء عمليّاً عندما احتاج إلى السلاح وتعايش مع إسرائيل لعقود متقاسماً مناطق النفوذ وساحات الصراع بالوكالة.
صراع النّخب وإعادة تسويق الذّات
لا يمكن فصل مقالة ظريف عن صراع النخب داخل النظام الإيرانيّ. ينتمي هذا الأخير إلى جناح يسعى إلى تقديم نفسه بديلاً عاقلاً يفهم لغة الغرب ويعتقد أنّه قادر على تسويق أفكار تُحيي الاتّفاق النوويّ بما يحمله من وعود اقتصاديّة في ظلّ وضع داخليّ مأزوم. بعد سلسلة إخفاقات أمنيّة وعسكريّة واقتصاديّة فادحة كشفتها الحرب الأخيرة، يرى هذا التيّار أنّ الحلّ يكمن في زيادة جرعة البراغماتيّة والانفتاح النسبيّ. يسوّق فرصاً استثماريّة وأسواقاً واعدة ويبني جسوراً متخيَّلة من التواصل البنّاء غير أنّه يصطدم بتيّار متشدّد يزداد نفوذه داخل الحلقة الضيّقة المحيطة بالمرشد، ويتقدّم عمليّاً إلى موقع اتّخاذ القرار. سمح التعايش الطويل بين التيّارين بإدارة التناقضات، إلّا أنّ مؤشّرات الصدام باتت أكثر وضوحاً.
تبدو إيران عالقةً في لحظة تاريخيّة متجمّدة مفتقدةً القدرة على التواصل مع الداخل والخارج بل ومع ذاتها
يطرح ظريف حلوله للأمننة من دون التطرّق إلى أسئلة تفرض نفسها: ما هو السبب الحقيقيّ لإقصائه المتكرّر؟ لماذا هتف نوّاب البرلمان “الموت لفيريدون (حسن روحاني)” حين انتقد الدور الروسيّ في مفاوضات الاتّفاق النوويّ؟ لماذا تحوّل موت رفسنجاني في المسبح إلى مادّة سجال حادّ؟ من سرّب فيديو زفاف ابنة شمخاني؟ ولماذا؟
أسئلة عديدة وإجابتها واحدة: يأكل النظام أبناءه وصراع النخب على أشدّه. لكن بدل تشخيص الواقع كما هو يعتمد ظريف في مقاله تكتيك “الغازلايتينغ”: يحاول إعادة تشكيل الوعي عبر قلب مواقع الضحيّة والجلّاد، والقول إنّ “المشكلة ليست نحن، بل الآخرون هم الذين دفعونا إلى هذا المسار”. يتجاهل أنّه كان جزءاً من النظام لا خارجه، وعمل ضمن ازدواجيّة سلطة تتيح واجهة دبلوماسيّة ناعمة فيما القرار الحقيقيّ بيد المرشد والحرس الثوريّ. ربّما يدرك ظريف وحلفاؤه طبيعة الحلّ المطلوب، لكنّ البوح دونه أخطار كبرى.
ما لا يقوله ظريف
لا يكمن الحلّ في تعديل الخطاب أو تجميل الصورة، بل في تفكيك البنية التي تنتج هذا الخطاب. أيّ مقاربة جدّيّة تقتضي أوّلاً تفكيك القوّة العسكريّة الاقتصاديّة الأيديولوجيّة الموازية للدولة والمعطّلة لها الحرس الثوريّ وإنهاء ازدواجيّة النظام بين مؤسّسات الدولة وأجهزة الثورة. وتفرض هذه المقاربة حسم العلاقة بين المرشد والرئيس، والانتقال إلى عقد اجتماعيّ جديد يعيد تعريف إيران بالدولة الوطنيّة الطبيعيّة، لا بالثورة الدائمة، ويتطلّب الخروج من “فخّ الأمننة”* عودة إيران إلى منطق الدولة “الوستفاليّة” التي تحصر نفوذها داخل حدودها وتعترف بتعدّديّتها الداخليّة.
هل يجرؤ محمّد جواد ظريف على كتابة مقال كهذا؟
إقرأ أيضاً: إيران وأزمة منتصف العمر: صبر استراتيجيّ أم موت سريريّ؟
*تعبير سياسي–إعلامي يُقصد به تحويل قضية مدنية أو سياسية أو اجتماعية إلى قضية أمنية بحتة، بحيث تُعالَج بمنطق التهديد والخطر بدل النقاش والحلول السياسية أو القانونية أو الاجتماعية.
* كاتبة صحافيّة وإعلاميّة لبنانيّة حاورت شخصيّات عربيّة وعالميّة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربيّ”. تخصّصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلّحة في جامعة كينغز كولدج لندن.
