يعود الملفّ اللبنانيّ إلى واجهة الاهتمام الدوليّ من بوّابة باريس، حيث تتكثّف الاجتماعات والاتّصالات بحثاً عن مقاربة جديدة تواكب التحوّلات الأمنيّة والسياسيّة التي يشهدها الجنوب، وتستشرف المرحلة المقبلة، بما فيها ما بعد “اليونيفيل”. في قلب هذا الحراك، تبرز “الميكانيزم” كأداة دوليّة قيد التقويم والتطوير، إلى جانب إصرار فرنسيّ واضح على حماية وحدة الجغرافيا اللبنانيّة ومنع تكريس أيّ تقسيم له خارطة جغرافية ولو وهميّة.
هل تنجح باريس، بالتعاون مع واشنطن والرياض، في تحويل الزخم الدبلوماسيّ إلى مسار استقرار مستدام أم تُبقي التعقيدات الداخليّة والإقليميّة لبنان في دائرة الانتظار المفتوح؟
ترتبط دبلوماسية باريس ارتباطاً عضويّاً ببيروت، وتأتي في إطار تثبيت هيكل دوليّ داعم للبنان يوفّر سياقاً محصّناً لمجمل المبادرات المطروحة على الساحة اللبنانيّة. لا تُختزل هذه الاجتماعات بلقاء واحد، بل تتّخذ شكل مسار متكامل يبدأ بآليّة “الميكانيزم” ويمتدّ إلى اللقاءات الثنائيّة والثلاثيّة وصولاً إلى زيارات الموفدين الدوليّين.
في جوهرها، تركّز هذه الديناميّة على المرحلة المقبلة، وتحديداً على ما بعد “اليونيفيل” في لبنان، من خلال محورين أساسيَّين: طبيعة “الميكانيزم” ووحدة الجغرافيا اللبنانيّة. يضاف إلى ذلك البحث في كيفيّة التحقّق من سلامة الآليّات المعتمَدة حاليّاً، وإمكان تطويرها لضمان تنفيذ اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة بصورة فعّالة. من هنا تبرز الأسئلة: هل تتبدّل طبيعة “الميكانيزم”؟ هل تتحول إلى لجنة موسّعة لمراقبة التنفيذ؟ هل يُعالج ملف سلاح «الحزب» بأسلوب مختلف؟
من أداة تقنية إلى إطار دولي موسّع
تشير لقاءات “الميكانيزم” التي عقدت في باريس إلى زخم دبلوماسي مكثّف، هدفه تعزيز آلية مراقبة وتنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية. يعكس هذا الزخم قناعة دولية بأنّ الوضع اللبناني، وخصوصاً في الجنوب، دخل مرحلة جديدة أسقطت المقاربات التقليدية التي لم تعد قادرة على ضبط التوازنات الأمنية والسياسية.
تشير لقاءات “الميكانيزم” التي عقدت في باريس إلى زخم دبلوماسي مكثّف، هدفه تعزيز آلية مراقبة وتنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية
“الميكانيزم”، في صيغته الحالية، هو هيكل دولي ذو طابع استشاري يميل أحياناً إلى التنفيذ، وقد يشكّل استجابة للظروف المستجدة بعد اتفاق تشرين الثاني. لكنه، رغم الإطار المؤسسي والدفع الدولي الذي حظي به، لم يُمنح شرعية مستقلة، وبقيت فعاليته مرتبطة بقدرة الدولة اللبنانية على تنفيذ التزاماتها، ولا سيما في ما يتصل بانتشار الجيش وحصرية السلاح.
تشكّل «اليونيفيل» عنصراً أساسياً في هذا السياق، من دون أن تكون تابعة للميكانيزم، إذ تعمل وفق الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. تدرك الإدارة الفرنسية أنّ الانتقال إلى مرحلة ما بعد «اليونيفيل» يتطلب تحضيراً كاملاً للجيش اللبناني ودعمه، ما يعني أنّ سحب القوات الدولية كلياً غير مطروح قبل اكتمال شروط الاستقرار وتنفيذ القرار 1701 بالكامل. مع ذلك، لا يُستبعد أن تتغير تسمية القوة الدولية أو تتبدل مهامها أو تتوسع رقعة انتشارها تبعاً للوقائع الميدانية.
في هذا الإطار، لا يُنظر إلى “الميكانيزم” كنظام أمني أو سياسي جديد، بل كأداة تقنية قابلة للتطوير، وقد تتحول تدريجياً إلى إطار دولي أشبه بـ«مجلس سلام خاص بلبنان»، تمهيداً لاستحقاقات دولية مرتبطة بتقدم المفاوضات. وكان يُطرح في هذا السياق، قبل سحب الطرح من التداول، توسيع الوفد اللبناني داخل “الميكانيزم”، وضم شخصيات مدنية من طوائف مختلفة، لتوزيع المسؤوليات وطمأنة الهواجس الداخلية، وتعزيز الضغط الدولي على إسرائيل بقدر التزام الدولة اللبنانية بمسؤولياتها.
وحدة الجغرافيا اللبنانية… خط أحمر فرنسي؟
في موازاة النقاش التقني، يبرز هاجس أساسي لدى الإدارة الفرنسية يتمثّل في رفض تكريس فصل لبنان جغرافياً وسياسياً بين شمال وجنوب نهر الليطاني. باريس ترى أنّ هذا التقسيم تحوّل إلى مدخل أساسي لتعزيز النفوذ الإيراني عبر «الحزب»، وإلى أداة لتغليب أولوية السلاح على مصلحة الدولة والشعب.
يعود الملفّ اللبنانيّ إلى واجهة الاهتمام الدوليّ من بوّابة باريس، حيث تتكثّف الاجتماعات والاتّصالات بحثاً عن مقاربة جديدة تواكب التحوّلات الأمنيّة
تحذّر مصادر فرنسية من أن تدويل ملف سلاح “الحزب” في جنوب الليطاني، منذ عام 2000، أدّى إلى تحويله إلى ورقة تفاوض إقليمية ودولية، في حين استُخدم السلاح شمال الليطاني كأداة للسيطرة على الدولة ومفاصلها. هذا المسار، برأي باريس، يفتح الباب أمام مخاطر كبرى، قد تصل إلى طرح الفصل السابع، في حال استمرار التمرد على الدولة والشرعية الدولية.
من هنا، تسعى فرنسا إلى منع إعادة إنتاج قواعد اشتباك جديدة تكرّس هذا الانقسام، وتعمل على تثبيت وحدة الجغرافيا اللبنانية كمدخل أساسي لأي استقرار دائم.
بين باريس وواشنطن… رهان على تثبيت الحل
تحاول الإدارة الفرنسية الموازنة بين حضورها الدبلوماسي وقدرة الولايات المتحدة، مستثمرة دورها كوسيط أفكار ومبادرات تحتاجها واشنطن لتحويلها إلى خطوات عملية. تكثّف باريس اتصالاتها مع السعودية والولايات المتحدة للضغط باتجاه حماية الاستقرار اللبناني. تمّ الاتفاق بمحصلتها على عقد مؤتمر دعم الجيش اللبناني وقوى الأمن في شباط العام 2026، من دون تحديد تاريخ معين. فيما سيتم العمل على إنشاء لجان تحضيرية تُعلن عن مكان اللقاء بعد الاتفاق عليه فيما بين الدول. سيصار إلى التعريف بالآليات الاجرائية المخصصة له، هذا بالاضافة إلى رسم تصورات لطبيعة تنظيمه وآليات عمله التقنية، وتحديد مستوى التمثيل لكل دولة. ذلك بالتوازي مع تنشيط الميكانيزم في باريس والناقورة.
تسعى الإدارة الفرنسية إلى تحويل مؤتمر الجيش من مجرد وعد سياسي الى حقيقة واقعة. سيكون البوابة لبداية المساعدات الاستثنائية للمؤسسة العسكرية تمهيداً لتنفيذ المراحل النهائية من الاتفاق، في إطار مسار سياسيّ – أمني يواكب الجهود الرامية إلى تثبيت الاستقرار في لبنان وتعزيز قدرات المؤسسة العسكريّة، فيما تبقى الأسئلة مفتوحة: هل تنجح باريس في تثبيت مسار الحلول؟ هل يتوسّع دور الميكانيزم ليواكب المرحلة المقبلة ويحمي وحدة لبنان وسيادته؟
*استاذ محاضر في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا وخبير قانوني في المفوضية الأوروبية.
مستشار قانوني واستراتيجي في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس – سويسرا.
لمتابعة الكاتب على X:
