أوروبا… والخريف السّياسيّ الطّويل !

مدة القراءة 4 د

منذ اللحظة التي بدأ فيها الحديث الجدّيّ عن اقتراب تسوية ما أو أفق سلام محتمل للحرب في أوكرانيا، لم تكن روسيا وحدها تحت المجهر، بل ظهر الاتّحاد الأوروبيّ عارياً سياسيّاً، مكشوف البنية وهشّ القرار بعدما قدّم نفسه لعقود كتلة صلبة قادرة على فرض إيقاعها في المنعطفات الدوليّة الكبرى.

الحرب التي كان يُفترض أن تكون لحظة اختبار لقوّة أوروبا ووحدتها، تحوّلت تدريجاً إلى مرآة عاكسة لعجزها البنيويّ عن اتّخاذ قرار سياديّ واضح، وإلى مناسبة إضافيّة لانكسار صورة الاتّحاد بوصفه لاعباً جدّياً لا ساحة لتوازنات الآخرين وحسب.

 

يُكثر القادة الأوروبيّون من الخطابات الصداميّة والعناوين الرنّانة عن الدفاع عن القيم الغربيّة وحماية النظام الدوليّ، لكنّ هذه النبرة العالية تفقد معناها سريعاً عند أوّل امتحان عمليّ. ما إن يدخل الاتّحاد في تفاصيل التنفيذ حتّى تتبدّد الشعارات أمام واقع الانقسامات الداخليّة، وتتحوّل وحدة الموقف إلى بازار مصالح، حيث تُراعى حساسيّات هذا العضو وتُطمئن مخاوف ذاك إلى أن يخرج القرار الأوروبيّ في نهاية المطاف فارغاً من أيّ مضمون فعليّ أو مشروطاً إلى درجة يفقد معها تأثيره وجدواه.

هشاشة وعجز

يشكّل ملفّ الأصول الروسيّة المجمّدة المثال الأوضح على هذا الارتباك. بينما يهدف اجتماع بروكسل إلى استخدام هذه الأصول لدعم أوكرانيا ماليّاً وعسكريّاً، تجد أوروبا نفسها عاجزة عن تحويل هذا الطرح إلى قرار حاسم.

الخلافات القانونيّة، الهواجس السياديّة لبعض الدول والخوف من السوابق القانونيّة كلّها عناصر كافية لتعطيل أيّ خطوة جريئة، وهكذا يصبح الاتّحاد مضطرّاً في كلّ مرّة إلى ترضية أعضائه قبل التفكير في أوكرانيا، فيُنتج قراراً رماديّاً لا يرضي كييف ولا يضغط على موسكو ولا يغيّر في مسار الحرب شيئاً.

الحرب التي كان يُفترض أن تكون لحظة اختبار لقوّة أوروبا ووحدتها، تحوّلت تدريجاً إلى مرآة عاكسة لعجزها البنيويّ

في المقابل، تقف روسيا عند شروطها الصلبة، غير معنيّة بضجيج البيانات الأوروبيّة، مدركةً أنّ هذا الاتّحاد، رغم ضخامته الاقتصاديّة، يفتقد القدرة على فرض كلفة سياسيّة حقيقيّة. هنا تتقاطع هشاشة الموقف الأوروبيّ مع عامل آخر أكثر حسماً يتمثّل في هيمنة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب على المشهد.

لا يتعامل ترامب، بعقليّته القائمة على الاستعراض والقوّة الشخصيّة، مع الحرب الأوكرانيّة كملفّ أوروبيّ بقدر ما يراها ساحة لإبراز نفسه في صورة “الآمر الناهي”، القادر على إنهاء حرب كبرى بكلمة، في محاولة واضحة لعدم كسر نرجسيّة خصمه الروسيّ فلاديمير بوتين عبر أوروبا، بل فوقها.

المفارقة أنّ قادة الاتّحاد الأوروبيّ، بدل إدراك حجم تراجعهم، ينخرط كلّ منهم في معركة نرجسيّة صغيرة يحاول من خلالها الظهور بمظهر الزعيم المؤثّر، ثمّ يكتشفون عند صدور القرارات أنّ الاتّحاد فقد هالته، وأنّ الزعامة الجماعيّة تحوّلت إلى وهم، وأنّ أوروبا التي كان يُحسب لها حساب في المعادلات الدوليّة باتت طرفاً يُستشار شكليّاً لا أكثر.

نهاية صورة

الأخطر من ذلك أنّ اللحظة التي سيعلن فيها ترامب بنفسه نهاية حرب أوكرانيا، مضيفاً إيّاها إلى سجلّ “الحروب التي انتهت في عهده”، ستكون لحظة فاصلة في صورة أوروبا لن يترك فيها الرئيس الأميركيّ أيّ هامش للاتّحاد كي يسرق الضوء أو يدّعي دوراً متقدّماً، وستكون التسوية أميركيّة بامتياز بختم شخصيّ تضع أوروبا أمام حقيقة مؤلمة عنوانها غياب أوروبا نفسها عن أخطر حرب على حدودها، بحيث أنّها لم تكن سوى مموّل متردّد وخطيب حماسيّ بلا قرار مستقلّ.

لن تكون تلك اللحظة، إن حصلت، نهاية حرب وحسب، بل نهاية صورة، صورة أوروبا القويّة، الرصينة والقادرة على إدارة أزماتها ومحيطها.

ما لم يُدرك الاتّحاد أنّ مشكلته ليست في روسيا وحدها ولا في ترامب فقط، بل في عجزه الداخليّ عن التحوّل من تجمّع مصالح إلى كيان سياسيّ صاحب قرار مستقل، فستكون كلّ حرب مقبلة مناسبة جديدة لانكشاف هذا العجز، مهما علت العناوين وكثرت البيانات.

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ…

من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق…