العراق: واشنطن تروّع الفصائل… فتُخضعها

مدة القراءة 6 د

توالت على نحو مستغرَب مواقف صادرة عن الفصائل العراقيّة المسلّحة الموالية لإيران تدعم حصريّة السلاح بيد الدولة، وهو أمر لم يدخل قاموس “الحزب” في لبنان. تفيد بداهة التطوّر أنّ ما تقدّمه إيران لمن يهمّه الأمر في العراق لا تقدّمه في لبنان، وأنّ المناورة التي تقوم بها طهران في العراق هي مصلحة لإيران، والإعراض عنها في لبنان مصلحة لها أيضاً. وفي كلتا الحالتين يصبّ الحصاد الرابح في حسابات طهران، فيما يدفع العراق ولبنان أثمان خساراته.

 

عدا “كتائب حزب الله” العراقي التي ربطت التخلّي عن السلاح بانسحاب القوّات الأجنبيّة، فإنّ فصائل أخرى مصنّفة إرهابيّة من قبل الولايات المتحدة أبرزها “عصائب أهل الحقّ” بقيادة قيس الخزعلي، “كتائب الإمام عليّ” بقيادة شبل الزيدي، “حركة أنصار الله الأوفياء” بقيادة حيدر الغراوي و”كتائب سيّد الشهداء” بقيادة أبو آلاء الولائيّ، أعلنت جميعها التزام حصر السلاح بيد الدولة.

حتّى إنّ رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان شكر، السبت، قادة الفصائل على “الاستجابة لنصيحته المقدّمة إليهم بخصوص التعاون معاً لفرض سيادة القانون وحصر السلاح بيد الدولة، والانتقال إلى العمل السياسيّ بعد انتفاء الحاجة الوطنيّة إلى العمل العسكريّ”.

أشاد المبعوث الأميركيّ إلى العراق مارك سافايا بالحدث. اعتبره “تطوّراً مشجّعاً ومرحَّباً به”، مشدّداً على ضرورة التنفيذ الفعليّ لتفكيك جميع الفصائل المسلّحة شرطاً لتعزيز الشراكة مع بغداد. لا أحد صدّق أنّ الفصائل المسلّحة في العراق آمنت طوعاً بالتخلّي عن سلاحها لمصلحة فضيلة الدولة. لكنّ الضرورات تبيح “ادّعاء” المحظورات.

توحي “الحكمة” الهابطة على فصائل السلاح في العراق بنذير مقلق لـ”الحزب” في لبنان

تهديدات جدّيّة ومتأهّبة

باتت التهديدات الأميركيّة جدّيّة ومتأهّبة، وفق ما أعلن وزير الدفاع العراقيّ ثابت العبّاسي نفسه الذي نقل ما سمعه من نظيره الأميركيّ بيت هيغسيث في مكالمة هاتفيّة حازمة على مدى 11 دقيقة في تشرين الثاني الماضي. لاحقاً، أبلغ المبعوث الأميركيّ توم بارّاك بغداد، قبل أسبوعين، أنّ واشنطن لن توقف إسرائيل عن ارتكاب “دوحة” ثانية في العراق. أخذت إيران وفصائلها العراقيّة و”الإطار التنسيقيّ” الشيعيّ القريب من طهران علماً بجدّيّة الإنذار فآثروا “التقيّة” والخضوع.

تواصل واشنطن ضغوطها مع وصول الكولونيل ستيفانا باغلي، مديرة مكتب التعاون الأمنيّ الأميركيّ في بغداد، التي يُنتظر أن تشرف على تنفيذ شروط التمويل العسكريّ الأميركيّ وفق قانون موازنة الدفاع لعام 2026. ينصّ القانون على ضرورة أن تُظهر بغداد تقدّماً في نزع سلاح الجماعات المسلّحة وتعزيز سلطة رئيس الوزراء على القوّات المسلّحة. قبل ذلك كانت وزارة الخارجيّة الأميركيّة أكّدت أنّ واشنطن ستواصل الضغط على بغداد لتفكيك الميليشيات الموالية لإيران التي “تقوّض سيادة الدولة وتهدّد الأمن الداخليّ”.

العراقالظاهر أنّ مسألة السلاح هي محور ما يؤخّر ولادة الحكومة العراقيّة الجديدة، وخصوصاً تسمية رئيسها. لا تتعلّق المسألة فقط بمنافسة بين رئيسَي الحكومة الحاليّ والأسبق محمد شيّاع السوداني ونوري المالكي وأسماء أخرى، بل بمستقبل الهيكل الحاكم بعد الاستجابة لإقصاء فصائل السلاح عن أيّ عضويّة داخل مجلس الوزراء وهياكل السلطة التنفيذيّة. وعلى الرغم من نيل “الإطار التنسيقيّ” ومسلّحيه أغلبيّة وازنة داخل برلمان العراق بعد انتخابات 11 تشرين الثاني الماضي، بدا الأمر غير كاف للحفاظ بالمستوى نفسه على حكم ما بعد عام 2003.

توحي الوقائع أنّ واشنطن عزمت على أمر في العراق لم تلمّح إليه ضدّ “الحزب” في لبنان

حوافز تسليم السّلاح

تقوم حوافز الفصائل على التسليم بحصريّة السلاح بيد الدولة على أسباب عدّة، أبرزها:

1- الخروج من بنك الأهداف الأميركيّ والإسرائيليّ الذي أوردته التحذيرات “الصديقة” التي بدا الوزير الأميركيّ حاسماً في إبلاغ بغداد بها.

2- زعمُ الاقتناع بأنّ ما حقّقته الفصائل برلمانيّاً من خلال الانتخابات يجعلها داخل الدولة لا منافساً لها.

3- التعويل على أنّ التودّد لـ”بدعة” حصريّة السلاح بيد الدولة لا يعني نزعه ما دامت (الفصائل) منضوية داخل “الحشد الشعبيّ” بصفته مؤسّسة شرعيّة تابعة للدولة.

مع ذلك، الفصائل متوجّسة من زمن مقبل لا يتيح لـ”الحشد” أن يبقى شرعيّاً، فراحت تروّج أنّ سلاحها هو سلاح الشيعة وحامي ديمومة سطوة الطائفة. ينسحب الأمر تماماً، وفق الغرض العقائديّ للجمهوريّة الإسلاميّة، على خطاب “الحزب” في لبنان. السلاح يسقط ويقبل باختفائه لمصلحة الدولة إذا ما تعرّض لخطر فناء جنوب نهر الليطاني، لكنّ وجوده يصبح مقدّساً شمال النهر بصفته سلاح الشيعة وضامن حقوقهم في لبنان. الواضح أنّ أمر “نزع” السلاح في العراق بات مطروحاً لدرجة أنّه مدار خلافات جدّية داخل “الإطار التنسيقيّ” نفسه.

توحي الوقائع أنّ واشنطن عزمت على أمر في العراق لم تلمّح إليه ضدّ “الحزب” في لبنان. الأرجح، وهذا ما يقلق نخب الحكم في العراق، أنّ تحوّلات في التفكير الاستراتيجيّ الأميركيّ بدأت توحي أنّ معركة العراق قد تكون بديلاً مناسباً عن حرب ضدّ إيران وحرب ضدّ “الحزب” في لبنان.

باتت التهديدات الأميركيّة جدّيّة ومتأهّبة، وفق ما أعلن وزير الدفاع العراقيّ ثابت العبّاسي نفسه الذي نقل ما سمعه من نظيره الأميركيّ بيت هيغسيث

حرق الأوراق الإيرانيّة

تقوم تلك الرؤية على ما تحوّل في موازين القوى بعد سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، فبات التعامل المقبل مع “ملفّ” إيران يحتاج إلى “حرق” كلّ أوراقها وراء الحدود، ومن شأن تقليص نفوذها في العراق إلى الحدود الدنيا أن يضعف آليّاً ما بقي لها منه في المنطقة، ومن ضمنها لبنان.

إقرأ أيضاً: إيران تبحث عن واشنطن في موسكو!!

توحي “الحكمة” الهابطة على فصائل السلاح في العراق بنذير مقلق لـ”الحزب” في لبنان. إذا ما عوّلت الفصائل على الانتخابات والفوز في البرلمان للحفاظ على بقائها، فلم يعد الأمر كافياً وسط انقلاب في موازين القوى جعل من اتّصال وزير أميركيّ يغيّر الأحوال ومآلاتها. تضطرّ الفصائل إلى الاعتراف (وإيران معها) بالأمر الواقع، وتتحرّى شهادات حسن سلوك ولو بشكل انتهازيّ مؤقّت. لا يحتاج “حزب” إيران في لبنان إلى إشارات عراقيّة ليفهم أنّ حصريّة السلاح بيد الدولة باتت أمراً حتميّاً، حتّى لو تمّت مدارات السلاح بمفردات “الاحتواء” وما قد تتفضّل به لغتنا العربيّة من مرادفات تنتهي إلى إسقاطه.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ…

من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق…