تستعدّ السلطة الفلسطينيّة لإجراء انتخابات الهيئات المحليّة في الضفّة الغربيّة خلال نيسان المقبل، استناداً إلى قانون انتخابات الحكم المحلّيّ رقم 23 لسنة 2025 وتعديلاته. غير أنّ هذه الانتخابات، التي يُفترض أن تحمل طابعاً خدميّاً وتنمويّاً، فجّرت موجة اعتراض سياسيّ وقانونيّ وشعبيّ، وسط تحذيرات من أنّها قد تتحوّل إلى محطّة إقصاء سياسيّ وتكريس للهيمنة، بدل أن تكون أداة لتعزيز المشاركة الديمقراطيّة والشفافيّة في إدارة شؤون المواطنين.
خلال الأيّام الأخيرة، تصاعدت أصوات معارضة من قوى سياسيّة ومؤسّسات مجتمع مدني وخبراء قانونيّين، رفضاً للأرضيّة القانونيّة التي ستُجرى بموجبها الانتخابات، ولا سيما التعديلات الجوهريّة التي أُدخلت على القانون. ويأتي في مقدَّم هذه التعديلات ما يُعرف بـ”الشرط السياسيّ”، الذي يُلزم كلّ مرشّح وقائمة انتخابيّة بالتوقيع على تعهّد بالتزام برنامج منظّمة التحرير الفلسطينيّة والتزاماتها الدوليّة وقرارات الشرعيّة الدوليّة والاتّفاقات الموقّعة، وهو ما يعتبره معارضون تقييداً صارماً لحرّية المشاركة السياسيّة وتحويل العمليّة الانتخابيّة من نشاط خدميّ محلّيّ إلى أداة سيطرة سياسيّة.
خلال الأيّام الأخيرة، تصاعدت أصوات معارضة من قوى سياسيّة ومؤسّسات مجتمع مدني وخبراء قانونيّين، رفضاً للأرضيّة القانونيّة التي ستُجرى بموجبها الانتخابات
يمسّ شرائح واسعة
يرى معارضو القانون أنّ هذا الشرط يُضفي، للمرّة الأولى، صبغة سياسيّة إلزاميّة على انتخابات محليّة يُفترض أن تكون خدميّة، ويحوّلها من ساحة تنافس على تحسين حياة المواطنين إلى أداة فرز سياسيّ وإقصاء ممنهج. واعتبرت جهات حقوقيّة أنّ هذه التعديلات تتعارض مع العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة، ومع الحقوق التي كفلها القانون الأساسيّ الفلسطينيّ ووثيقة الاستقلال، وهو ما يفتح الباب أمام انتقادات دوليّة محتملة لشرعيّة العمليّة الانتخابيّة.
تذهب قوى فلسطينيّة إلى أبعد من ذلك، معتبرة أنّ إدراج “الشرط السياسيّ” لا يستهدف فصيلاً بعينه، بل يمسّ شرائح واسعة من المجتمع الفلسطينيّ، من بينها المستقلّون والشباب والناشطون المدنيّون، ويقوّض روح التعدّديّة السياسيّة والفكريّة، ويفرض لوناً سياسيّاً واحداً على مؤسّسات يُفترض أن تكون جامعة وتمثيليّة. ويرى هؤلاء أنّ القانون يأتي في سياق الرضوخ للإملاءات الأميركيّة والإسرائيليّة، ضمن ما تُسمّيه السلطة الفلسطينيّة “خطّة الإصلاحات” التي تعهّدت بتنفيذها أمام المجتمع الدوليّ، وهو ما يجعل الانتخابات المقبلة اختباراً حقيقيّاً لمدى استقلال القرار الفلسطينيّ.
في هذا السياق، عقد تجمّع “نداء فلسطين”، الذي يضمّ خمس قوى سياسيّة ديمقراطيّة هي الجبهة الشعبيّة، الجبهة الديمقراطيّة، حزب الشعب، المبادرة الوطنيّة وحزب فدا، إلى جانب مؤسّسات أهليّة ومجتمع مدنيّ ومؤسّسات حقوقيّة، اجتماعاً في رام الله في 17 كانون الأوّل الجاري، لبحث سبل مواجهة القرار بقانون. وخلص الاجتماع إلى إجماع على مقاطعة الانتخابات المحليّة باعتبارها القاعدة الأساسيّة التي تنطلق منها الخطوات الاحتجاجيّة، فيما وصفه مشاركون بأنّه “معركة سياسيّة وقانونيّة” لا بدّ من خوضها لضمان احترام إرادة الجمهور الفلسطينيّ.
تُعدّ مقاطعة الانتخابات، ترشّحاً وتصويتاً وإشرافاً، الخيار الأبرز أمام القوى المعارضة لأنّها خطوة من شأنها أن تُفقد الانتخابات التعدديّة والصدقيّة، وتحوّلها إلى استحقاق شكليّ
المقاطعة كأداة ضغط
تُعدّ مقاطعة الانتخابات، ترشّحاً وتصويتاً وإشرافاً، الخيار الأبرز أمام القوى المعارضة لأنّها خطوة من شأنها أن تُفقد الانتخابات التعدديّة والصدقيّة، وتحوّلها إلى استحقاق شكليّ ذي مخرجات محسومة سلفاً. وقد أعلنت بالفعل مؤسّسات حقوقيّة نيّتها مقاطعة أيّ دور تدريبيّ أو رقابيّ أو إشرافيّ مرتبط بالانتخابات، وهو ما قد يضع النظام السياسيّ في موقف حرج داخليّاً وخارجيّاً ويشكّل ضغطاً معنويّاً على السلطة.
لا تقتصر المقاطعة على عدم المشاركة فحسب، بل تشمل ممارسة ضغوط سياسيّة ومجتمعيّة لإقناع من يفكّرون في الترشّح بالعدول عن ذلك، إلى جانب إطلاق حملات إعلاميّة وتوعويّة لشرح مخاطر التعديلات القانونيّة وتداعياتها على الحياة السياسيّة الفلسطينيّة، انطلاقاً من توضيح أنّ الهدف ليس المعارضة من أجل المعارضة فقط، بل الضغط لسحب التعديلات والعودة إلى قانون انتخابات الحكم المحلّيّ لعام 2005 وتعديلاته.
تبدو انتخابات الحكم المحلّيّ المقبلة اختباراً حقيقيّاً لمفهوم الديمقراطيّة الفلسطينيّة بين سلطة تسعى إلى فرض قانون مثير للجدل، وقوى سياسيّة ومجتمعيّة ترى في هذا القانون تهديداً مباشراً للتعدّديّة والشرعيّة
المسار القضائيّ… خيار محدود
أمّا المسار الثالث المطروح أمام المعارضين فهو الطعن القضائيّ أمام المحكمة الدستوريّة أو الجهات المختصّة في قانونيّة التعديلات. غير أنّ كثيرين ينظرون إلى هذا المسار بتشكُّك، في ظلّ واقع سياسيّ تمسك فيه السلطة ورئيسها بمقاليد السلطات الثلاث، وسوابق تشريعيّة لم تُواجَه بتراجعات، مثل حلّ المجلس التشريعيّ وتعديلات ملفّات حسّاسة. وهذا يعكس محدوديّة قدرة القانون على إحداث تغيير حقيقي إذا لم يقترن بضغط شعبيّ واسع.
في المقابل، واضح أنّ السلطة، في ظلّ التزاماتها السياسيّة والإداريّة والماليّة تجاه الأوروبيّين، ماضية في إجراء الانتخابات وفق رؤيتها، مع الاعتماد على احتواء الاحتجاجات أو الالتفاف على المقاطعة عبر تشجيع ترشّح شخصيّات عشائريّة ومستقلّة محسوبة عليها، لإظهار صورة شكليّة من التعدّديّة، وإخفاء آثار المقاطعة في حال نفّذت القوى السياسيّة والمدنيّة خطّتها.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تنهش الضّفّة: استراتيجية ممنهجة لمحو الدولة
معركة القانون والديمقراطيّة
في المحصّلة، تبدو انتخابات الحكم المحلّيّ المقبلة اختباراً حقيقيّاً لمفهوم الديمقراطيّة الفلسطينيّة بين سلطة تسعى إلى فرض قانون مثير للجدل، وقوى سياسيّة ومجتمعيّة ترى في هذا القانون تهديداً مباشراً للتعدّديّة والشرعيّة، وهو ما ينذر بمعركة على أكثر من مسار عنوانها الأبرز: من يملك حقّ تحديد قواعد اللعبة الديمقراطيّة؟ وهل تنجح المقاطعة والاحتجاجات والمسار القضائيّ في كبح هذا القانون أم السلطة ماضية في فرضه؟
