إيران تبحث عن واشنطن في موسكو!!

مدة القراءة 6 د

احتاج وزيرا الخارجيّة الروسيّ والإيرانيّ، الأربعاء، إلى بذل كثير من الجهود لإقناع المراقبين بأنّ البلدَين حليفان، بينهما كثير من المشترَكات والمصالح. فما بين طهران وموسكو حكاية معقّدة يمكن أن تكون مدرسة في فنون العلاقات الجبريّة في خبثها وتناقضها كما في تعاونها وتواطئها. وكان سهلاً التساؤلُ في نهاية المؤتمر الصحافيّ المشترك عن وجاهة زيارة الوزير الإيراني لموسكو ومدى أهميّتها بالنسبة لعواصم الخصوم.

 

كاد الوزير عبّاس عراقجي يقسم إنّ البرنامج النوويّ الذي تضرّر في حرب الأيّام الـ 12 في حزيران الماضي ما يزال يعمل. خلت تصريحاته من توعّد بمفاجآت نوويّة مقلقة، بما أوحى بحجم ذلك الضرر وحقيقة أنّه ربّما أبعد القنبلة النوويّة لسنوات، على الرغم ممّا تعلنه إسرائيل عادة من أنّ الخطر ما يزال ماثلاً وعلى بعد خطوات. بالأمس أكّدت صور الأقمار الاصطناعية أنّ هناك أعمال تجري في منشأة نطنز النووية وسط إيران.

جسامة الخسارة الإقليميّة

جاء عراقجي إلى موسكو مكرّراً من جديد مواقف سابقة تؤكّد بإلحاح استعداد بلاده للتفاوض فوراً بشأن البرنامج النوويّ. شكا إلى موسكو جفاء الولايات المتّحدة وإعراضها عن مغريات التفاوض. بدا أنّ الولايات المتّحدة لم تعُد في عجلة من أمرها بعدما فتكت قاذفاتها الاستراتيجيّة بمفاعلات فوردو ونطنز وأصفهان النوويّة في حزيران الماضي. أصدرت المؤسّسات الاستخباريّة الأميركيّة تقويمها بشأن مستوى الأضرار التي لحقت بالبرنامج النوويّ، فأخرج الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب ذلك الملفّ من سلّم أولويّاته.

جاء عراقجي إلى موسكو مكرّراً من جديد مواقف سابقة تؤكّد بإلحاح استعداد بلاده للتفاوض فوراً بشأن البرنامج النوويّ

بدا أنّ واشنطن تنتظر ظروفاً جديدة تجعل من إيران أكثر “تعاوناً” مع شروط المفاوضات المحتملة. فما قبل حرب حزيران يختلف عمّا بعدها، وما كان مطروحاً للتفاوض بات متقادماً ينتمي إلى موازين قوى تغيّرت. فقدت إيران أوراقها في المنطقة بمستويات متفاوتة من غزّة إلى اليمن مروراً بالعراق وسوريا ولبنان. أضاف الغربيّون إلى أجندة التفاوض ملفَّي الصواريخ البالستيّة الإيرانيّة وأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، أي علاقتها مع الميليشيات. ترفض طهران تراكم الملفّات، فتصمت واشنطن وتبقى صالات التفاوض مقفلة.

تنتظر واشنطن ظروفاً أخرى: عوامل تتعلّق بالداخل الإيرانيّ يرتبط بعضها بالجدل السياسيّ الداخليّ بين الصقوريّة والواقعيّة، وبعضها الآخر بهاجس الصراع على السلطة بعد المرشد علي خامنئي، وبعضها الأخير بهاجس التدهور الاقتصاديّ الذي يدفع الرئيس الإيرانيّ مسعود بزشكيان إلى اتّخاذ إجراءات موجعة ترفع أسعار البنزين والوعد بإصلاحات تأخّرت ولا تأتي. لا شيء يدفع واشنطن لحرق المراحل، وكأنّها تنتظر لحظة تقول فيها إنّ “الرؤوس أينعت وحان قطافها”.

موسكو

تشعر إيران بجسامة الخسارة الإقليميّة التي دفعت ثمنها خلال حرب “طوفان الأقصى”. قصم سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا ظهرها، وأقفل “هلالها” من طهران إلى بيروت، فيما حزبها في لبنان، “درّة تاج” إمبراطوريّتها، يعيش مرحلة النهايات البائسة. تبدو طهران توّاقة إلى الحفاظ على “أحلامها” اللبنانيّة. تجاهلت جفاء وزير الخارجيّة اللبنانيّ يوسف رجّي الرافض لتلبية دعوة نظيره الإيرانيّ إلى زيارة طهران. وتجاهلت “تنويمه” ملفّ تعيين سفير إيرانيّ جديد في بيروت، فخرج عراقجي يعِد بتلبية دعوة رجّي وزيارة بيروت قريباً.

تعرف طهران حكايتها السورياليّة مع موسكو. يعرف الوزير الإيرانيّ محدوديّة الدعم الروسيّ وغياب احتمالاته

لا تملك روسيا شيئاً كبيراً تقدّمه لإيران في محنتها. بين البلدين اتّفاق استراتيجيّ لمدّة 25 عاماً لم يعنِ أن تقدّم روسيا العون لإيران لردّ الحرب في حزيران. اكتفت موسكو، كما الصين صاحبة اتّفاق استراتيجيّ آخر، بالاستنكار والإدانة. ولا تملك روسيا، التي بالكاد “تقلّع شوكها” في أوكرانيا، أن تكون قوّة وازنة تضغط على الولايات المتّحدة لتليين موقفها بشأن ملفّ التفاوض مع إيران بما في ذلك عقوباتها الغليظة الموجعة.

مجبرٌ أخاك لا بطل

لا تريد روسيا لإيران أن تمتلك قنبلة نوويّة. تتحصّن وراء الموقف الغربيّ لتحقيق ذلك، عارضةً بضاعتها لبيع إيران تقنيّات ستكون أكثر حجماً إذا ما نجحت واشنطن في حرمان إيران من تخصيب اليورانيوم. بدا أنّ الوزير سيرغي لافروف استغلّ المناسبة لوضع النقاط على الحروف. سلّف ضيفه مواقف مستنكِرة لقسوة الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة ومستحسِنة لحسن سيرة إيران وسلامة نواياها. لكنّه وجد في المناسبة منبراً لصبّ جام غضبه على أوروبا بصفتها المسؤولة عن مصائب العلاقات الدوليّة مع إيران متغافلاً باستخفاف عن أنّ واشنطن وحدها هي التي تملك قرار مصير الملفّ النوويّ الذي تسير روسيا كما أوروبا على هديه.

لا تريد روسيا لإيران أن تمتلك قنبلة نوويّة. تتحصّن وراء الموقف الغربيّ لتحقيق ذلك

تصفّي روسيا حسابها الأوكرانيّ مع بلدان أوروبيّة وصفها الرئيس فلاديمير بوتين بالخنازير، من خلال مناسبة إيرانية. يتودّد لافروف بالمناسبة إلى واشنطن خدمة لسعي “الصديق” دونالد ترامب إلى تمرير الحلّ الروسيّ في أوكرانيا فيبرّئها تماماً من إثم يمارَس ضدّ إيران. يحرص لافروف بالذات على هذا “الحنان” بعدما سبّب جفاؤه في اتّصال هاتفيّ قبل أسابيع مع وزير الخارجيّة الأميركيّ ماركو روبيو غضباً للكرملين غيّب الوزير الروسيّ عن الظهور إلى درجة أثارت قلق التقارير المتخصّصة.

إقرأ أيضاً: انفصال جنوب اليمن: الطلاق “أبغض الحلال”

تعرف طهران حكايتها السورياليّة مع موسكو. يعرف الوزير الإيرانيّ محدوديّة الدعم الروسيّ وغياب احتمالاته. لم تُخفِ منابر إيران البرلمانيّة ما تُخفيه المنابر الرسميّة. صبّ برلمانيّون جامّ غضبهم قبل سنوات على روسيا لغضّها الطرف وربّما لتواطئها حيال “فلاحة” كانت إسرائيل تقوم بها في سوريا أطاحت بمصالح وميليشيات وقيادات إيرانيّة رفيعة في سوريا في عهد النظام السابق. خرجت إيران برعاية روسيّة من سوريا فيما احتفظت روسيا بنفوذ في سوريا الجديدة حتّى لو اختلف حجمه ومهامّه وظروفه. تعرف إيران أنّها مجبرة على أن تبتلع العلقم الروسيّ وأن تتمسّك بعلاقة ودّ وتحالف مزعوم حتّى لو اضطرّ عراقجي إلى تحمّل وعود لافروف مهما كان مضمونها فارغاً.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ…

من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق…