إيران وأزمة منتصف العمر: صبر استراتيجيّ أم موت سريريّ؟

مدة القراءة 9 د

نادراً ما يمكن فهم إيران الحديثة خارج سياقها الإقليميّ، فعلى الرغم من خصوصيّتها المذهبيّة، ذاكرتها الإمبراطوريّة وبنيتها السياسيّة المعقّدة، كانت تحوّلاتها الكبرى، في معظم الأحيان، جزءاً من الموجة نفسها التي اجتاحت العالمَين العربيّ والإسلاميّ. أحياناً سارت إيران مع التيّار، وأحياناً سبقته، لكنّها نادراً ما وقفت خارجه.

 

 

صحيح أنّ زلزال السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل ضرب غزّة أوّلاً، لكنّ ارتداداته العنيفة حرّكت الصفائح التكتونيّة للسياسة الشرق الأوسطيّة، وخلقت حقلاً هائلاً من الرمال المتحرّكة لا قدرة لأحد على الخروج منه إلّا بقدر عالٍ من الديناميكيّة والبراغماتيّة. فقد أخرج التفوّق الإسرائيليّ فصائل “محور المقاومة” من الخدمة بما هي خطّ دفاع متقدّم عن الأمن القوميّ الاستراتيجيّ الإيرانيّ، وفي مقدَّمها “الحزب” و”حماس”، وتعرّضت طهران، لأوّل مرّة منذ الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، لضربة مباشرة، ثمّ سقط النظام الأسديّ، ففقدَ المحور عمقه الاستراتيجيّ وخطّ إمداده.

كان “إعلان شرم الشيخ” إيذاناً ببدء تحوّل كبير في منطقتنا، عنوانه السلام المدفوع بالمصالح المشتركة وخطط التنمية العابرة للحدود، أو هكذا صدّق البعض. انخرط الجميع، بدرجات متفاوتة، في هذا المسار، ما عدا إيران. فبعد عامين على “الطوفان”، تبدو الجمهوريّة الإسلاميّة عالقة في لحظة متجمّدة من الزمن، لحظة سيطرت فيها على أربع عواصم عربيّة وفرضت شروطها على المفاوض الأميركيّ والجار العربيّ.

راهن كثيرون على قدرة النظام الإيرانيّ على المناورة في الميدان وعلى طاولة المفاوضات النوويّة، وسُكب حبر غزير عن “الحذاقة الفارسيّة” وقدرات “تاجر البازار” و”صانع السجّاد” على الالتفاف وتدوير الزوايا. غير أنّ هذه الحذاقة لم تفهم، على ما يبدو، عمق التغيير المطلوب لإلحاق طهران بركب العصر الجديد. فبدت إيران–النظام أشبه بمرشدها: هرِمة تنتمي إلى زمن غابر فقدت لغة التواصل مع مجتمع ديناميكيّ حيّ يتقن لغة العصر الرقميّ ويتطلّع إلى مستقبل أكثر إشراقاً لأبنائه.

كان “إعلان شرم الشيخ” إيذاناً ببدء تحوّل كبير في منطقتنا، عنوانه السلام المدفوع بالمصالح المشتركة وخطط التنمية العابرة للحدو

المفارقة أنّ إيران، التي لطالما قدّمت نفسها بوصفها دولة “مختلفة”، تبدو اليوم في حالة من الاختلاف السلبيّ عن الإقليم، ليس لأنّ المنطقة وصلت إلى السلام أو الديمقراطية أو الاستقرار الكامل، بل لأنّ “منطق الحكم نفسه” بدأ يتغيّر في أماكن كثيرة، بينما لا تزال طهران أسيرة معادلات صيغت في زمن مضى. لكنّ الحال لم يكن دائماً كذلك.

من الدّستوريّة إلى الدّولة: إيران في قلب أسئلة عصرها

طرحت الانتفاضة الدستوريّة في مطلع القرن العشرين أسئلة الحكم وحدود الملَكيّة وموقع الدين من الدولة. وهي أسئلة لم تكن إيرانيّة خالصة، بل شغلت مفكّري عصر النهضة العربيّة، وشغلت علماء النجف الذين أثّروا بدورهم مباشرة في تشكيل الوعي السياسيّ لعلماء الدين وكثير من السياسيّين في طهران.

كانت أفكار مونتسكيو وفولتير وروسو وألفييري تُترجَم إلى العربيّة والفارسيّة، تُقرأ في دمشق وبغداد وطهران وتُصهر في القوالب الثقافيّة العثمانيّة والقاجاريّة لتعود فتظهر في كتابات الكواكبي والنائيني وغيرهما. ويشير الكاتب المتخصّص في الشؤون الإيرانيّة الدكتور سعود المولى إلى أنّ “الكتاب الذي أعطى المضمون السياسيّ التنظيميّ للانتفاضة الدستوريّة كان كتاب الشيخ محمد حسين النائيني، الذي كان يعيش في النجف. فقد صدر كتابه “تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة” في الزمن نفسه الذي صدر فيه “طبائع الاستبداد ومصائر الاستعباد” لعبدالرحمن الكواكبي، وتشابها في مضامينهما إلى حدّ كبير”.

لم تستورد إيران “المشروطة” من الخارج، لكنّها تحرّكت داخل فضاء فكريّ إقليميّ وعالميّ مشترَك رأى في الملَكيّة الدستوريّة جسر عبور نحو الدولة الحديثة.

التّحديث من فوق… ثمّ كسر المسار

مع صعود رضا شاه بهلوي في عشرينيّات القرن الماضي، دخلت إيران مرحلة بناء الدولة من فوق، عبر فرض النظام، إعادة تشكيل المجتمع وتقليص مساحة السياسة في تماهٍ واضح مع المسار الذي اختطّه مصطفى كمال أتاتورك في تركيا ما بعد الخلافة. شهدت إيران طفرة عمرانيّة وتنمويّة هائلة، فُرضت خلالها القيم العلمانيّة، ومُنع الحجاب، وتقلّصت الحياة السياسيّة إلى حدّ التلاشي، إلى أن جاء محمد مصدّق.

شكّل مصدّق لحظة كسر في المسار الذي رسّخه رضا شاه. لم يكن ثوريّاً ولا راديكاليّاً، بل رجل قانون ودستور. وكان تأميم النفط أكثر من قرار سياديّ. كان إعلاناً بأنّ الدولة يمكن أن تستند إلى الإرادة الشعبيّة، لا إلى العصا وحدها. وصل صدى التأييد الجارف لمصدّق إلى القاهرة، فحذا جمال عبدالناصر حذوه، وصنع مجداً حفظته له مصر حتّى اليوم بتأميم قناة السويس.

مرّة أخرى، لم يكن مزاج الإيرانيّين مختلفاً عن مزاج المصريّين أو الجزائريّين. كانت لحظة حركات التحرّر الوطنيّ، التي أدركت سريعاً أنّ الدولة لا تُحكم بالشرعيّة وحدها، بل بالقوّة التي تحصّنها. استوعب الشاه الابن هذه المعادلة بعد الانقلاب، واستوعبتها الأنظمة العربيّة التي بنت دولاً قويّة ظاهريّاً، هشّة من الداخل.

طرحت الانتفاضة الدستوريّة في مطلع القرن العشرين أسئلة الحكم وحدود الملَكيّة وموقع الدين من الدولة. وهي أسئلة لم تكن إيرانيّة خالصة، بل شغلت مفكّري عصر النهضة العربيّة

الإسلام السّياسيّ: من الأفكار العابرة للحدود إلى الدّولة

مع تعاظم سلطة محمّد رضا شاه، تحوّلت إيران إلى دولة أمنيّة بوجه عصريّ. ازدهر الاقتصاد وتمدّدت الطبقة الوسطى، لكنّ السياسة غابت مجدّداً، ومعها القدرة على امتصاص الغضب الشعبيّ. وحين انفجر هذا الغضب أواخر السبعينيّات، لم ينفجر باسم الدستور أو القوميّة، بل باسم الدين.

جاءت الثورة الإسلاميّة عام 1979 في لحظة إقليميّة مأزومة: القوميّة العربيّة في أفول، مشاريع التنمية فشلت والأنظمة فقدت شرعيّتها. لم تكن الثورة نتاج تديّن مفاجئ، بل نتيجة تراكم طويل من الإقصاء السياسيّ والاختناق الاجتماعيّ. وقد نجحت لأنّها التقطت لغة الشارع، وقدّمت سرديّة واضحة عن العدالة والاستقلال والقطيعة مع التبعيّة.

لم يأتِ الإسلام السياسيّ الإيرانيّ من فراغ فكريّ مغلق، بل تشكّل في تفاعل مع أدبيّات “الصحوة الإسلاميّة” العابرة للحدود، التي حمل رايتها تيّار الإخوان المسلمين. فقد ساهمت كتابات أبي الأعلى المودودي وسيّد قطب عن مفاهيم الحاكميّة والجاهليّة في تهيئة المناخ الفكريّ الذي طوّر الخميني من خلاله نظريّته في الدولة الإسلاميّة تحت عنوان ولاية الفقيه.

وفي غفلة من أجهزة استخبارات الحرب الباردة المنشغلة بملاحقة المعارضين اليساريّين، كما يؤكّد الباحث الإيرانيّ محسن ميلاني في كتابه “صناعة الثورة الإسلاميّة: من الملَكية الى الجمهوريّة الإسلاميّة”، فاجأ الخميني العالم بوصوله إلى السلطة، معلناً قيام أوّل دولة يحكمها الإسلام السياسيّ، طامحاً إلى أن يكون زعيماً إسلاميّاً لا إيرانيّاً فحسب. وقد فصّل المفكّر الإيرانيّ الأصل فالي نصر في كتابه “الصحوة الشيعيّة” كيف ألهب وصول الخميني إلى السلطة مخيّلة الإسلاميّين في المنطقة، وأثار في المقابل رعب دوائر صنع القرار، التي رأت في هذا المدّ تهديداً وجوديّاً، فاستثمرت في الفكر المضادّ لتبصر حركات السلفيّة الجهاديّة النور.

ليست إيران خارج التاريخ. يعيش مجتمعها الفتيّ أحلام الجيل الجديد ويتحدّث لغته ويتطلّع إلى ملاقاته

من الثّورة إلى إدارة الأزمات

خرجت الجمهوريّة الإسلاميّة منهكة من حرب العراق، لكنّ النظام خرج متسلّحاً بالشرعيّة القتاليّة، وبجيش رديف عُرف بالحرس الثوريّ سرعان ما أصبح الأداة الأعتى للنظام في الداخل والخارج. وكان هو أيضاً امتداداً لحالة ميليشياويّة انتشرت في بلدان أنهكتها الحروب الأهليّة، من أفغانستان إلى يوغوسلافيا، مروراً بلبنان.

قوّضت ثنائيّة الثورة والدولة إمكان تحوّل إيران إلى دولة طبيعيّة بعد الحرب. فُتح المجال نسبيّاً في عهد رفسنجاني، ثمّ خاض محمّد خاتمي تجربة إصلاحيّة اصطدمت ببنية نظام صُمّم ليقاوم التغيير من الداخل. وكان وصول أحمدي نجاد إيذاناً بإحكام الحرس قبضته على الدولة، التي تحوّلت تدريجاً من الفكر الثوريّ إلى العقليّة الأمنيّة، بحسب توصيف سعود المولى.

منذ ذلك الحين، دخلت إيران مرحلة “إدارة الأزمات بدل حلّها”. توالت الاحتجاجات ابتداء من الثورة الخضراء عام 2009 إلى موجات 2017 و2019 و2022، كاشفةً أنّ مجتمع السبعينيّات لم يعد هو نفسه. لم يردّد جيل الألفيّة شعارات أيديولوجيّة ولا مطالب كبرى. صارت الحياة اليوميّة، الاقتصاد، المحاسبة والكرامة في صدارة الغضب.

بدا في كلّ تلك المراحل أنّ الهتاف في طهران يلاقي الهتاف في دمشق، القاهرة، بيروت وبغداد. لكنّ إدارة الأزمة اختلفت. نجح الربيع العربي في تغيير أنظمة حكم في دول عدّة، بينما امتلك النظام الإيرانيّ قدرة هائلة على الاحتواء والبطش، مستنداً إلى جهاز أمنيّ متماسك ومؤسّسات ترى في الاحتجاج تمرّداً وتهديداً وجوديّاً لا مطلباً سياسيّاً. سقط النظام أخلاقيّاً أمام سرديّته، وهنا تحديداً يكمن مأزق الجمود.

حين يصبح الجمود خطراً وجوديّاً

لا يمكن اختزال المأزق الإيرانيّ اليوم في الشقّ الاقتصاديّ أو البيئيّ، ولا في جمود المفاوضات النوويّة فحسب. تعيش إيران أزمة لغة سياسيّة فقدت قدرتها على التخاطب مع شعبها ومع العالم، أزمة عقل استراتيجيّ فقد البصيرة وأزمة تعريف للدور في إقليم يعيد ترتيب أولويّاته.

إقرأ أيضاً: إيران المهزومة: الشّيعة وقود للحرب وحطب للتّسوية؟

لم يخلق زلزال السابع من أكتوبر هذا المأزق، لكنّه كشف بوضوح عمق التكلّس في بنية النظام. فبدت أدوات النفوذ التي استثمرت فيها طهران لعقود منتهية الصلاحيّة أمام التطوّر التكنولوجيّ الهائل. ورثت إيران، على نحوٍ ساخر، لقب خصمها العثمانيّ التاريخيّ، لتغدو “مريض الشرق الأوسط” الجديد كما وصفها الكاتب المتخصّص في الشأن الإيرانيّ مصطفى فحص.

ليست إيران خارج التاريخ. يعيش مجتمعها الفتيّ أحلام الجيل الجديد ويتحدّث لغته ويتطلّع إلى ملاقاته. تمتلك كلّ مفاتيح التحوّل، لكنّ اليد القابضة على القرار تبدو في حالة موت سريريّ لا صبر استراتيجيّ. هل تنبض شوارع طهران بالثورة مجدّداً؟ لا يمكن التنبّؤ بالمستقبل، لكنّ الثابت في علم الفيزياء أنّ الجمود في حقل من الرمال المتحرّكة يؤدّي حتماً إلى الغرق فيها، وأنّ رياح التغيير لا تهبّ دائماً من الغرب.

 

*ملاك جعفر عباس هي كاتبة صحافية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن.

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ…

من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق…