ايران: متى يقع الشرخ داخل النخبة الحاكمة؟

مدة القراءة 7 د

في قراءة معمّقة لديناميّات المجتمع والدّولة في إيران، يقدّم باحثٌ إيرانيّ مقاربة تتجاوز التفسيرات السطحيّة للاحتجاج والركود السياسيّ. فبين مجتمعٍ مثقل بالغضب والخوف، ونظامٍ متماسك ظاهريّاً على الرغم من أزماته البنيويّة، يرسم زماني صورة لسكونٍ مشحون، لا يعني الاستسلام بقدر ما يعكس انتظار لحظة الكسر الحاسمة.

 

يشبّه الكاتب والباحث الإيرانيّ مسعود زماني الوضع في إيران اليوم بأنّه في حالة سكون مشحون يسبق عادةً بدء أيّ انتفاضة شعبيّة شاملة. لكنّه يستبعد قيام هذه الانتفاضة ما لم يحدث شرخٌ حاسمٌ داخل النخبة الحاكمة من شأنه أن يغيّر حسابات الشارع ويقنعه بإمكان نجاح ثورة جماهيريّة وبأنّ كلفة الفعل الجماعيّ باتت أقلّ من كلفة الصمت.

يشير زماني، وهو محاضر في القانون الدوليّ والعلاقات الدوليّة بجامعة كولومبيا البريطانيّة، إلى التاريخ الثوريّ الحافل بالتحوّلات الدراماتيكيّة والحسّ السياسيّ العالي للإيرانيّين لدرجة وصفهم بأنّهم “فرنسيّو الشرق الأوسط”، فمن الثورة الدستوريّة عام 1906، التي وضعت أسس الدولة الحديثة، إلى ثورة 1979 التي أطاحت بالنظام الملكيّ، وصولاً إلى موجات الاحتجاج المتلاحقة في أعوام 2009 و2017 و2019، ثمّ انتفاضة “المرأة، الحياة، الحرّية” عام 2022، ظلّ المجتمع الإيرانيّ حاضراً بقوّة بوصفه فاعلاً سياسيّاً.

 

دولة متداعية في مواجهة مجتمع يائس

غير أنّ زماني يلفت إلى أنّ المقارنة بين هذه اللحظات التاريخيّة تكشف أنّ الإشكاليّة اليوم لا تكمن في غياب المظالم، بل في طبيعة الدولة التي تواجهها هذه المظالم. فالحكومات المتعاقبة قبل عام 1979 كانت تعمل ضمن حدود سياسيّة وأخلاقيّة معيّنة، حتّى في مواجهة التهديدات الخطِرة. أمّا الجمهوريّة الإسلاميّة فلم تشعر يوماً بأنّها مُقيّدة بمثل هذه الضوابط. ولم تتردّد طوال تاريخها الممتدّ لخمسة وأربعين عاماً في استخدام القوّة المفرطة، وغالباً ما لجأت إلى مستوى من الوحشيّة لا يهدف فقط إلى قمع المعارضة، بل إلى إخماد فكرة التعبئة الشعبيّة من أساسها.

في رأي زماني، هذا الواقع يضع أيّ حركة احتجاج محتملة اليوم أمام معضلة حقيقيّة. فإيران تدخل أزمة إنسانيّة متفاقمة نتيجة انهيار اقتصاديّ، تدهور بيئيّ، نقص واسع في الموارد واتّساع غير مسبوق في رقعة الفقر، بينما يواجه مواطنوها دولةً لا تعترف بأيّ حدود للقمع، وهي قادرة على تجاهل كلّ هذه الأزمات، ومواصلة إنفاق مواردها على سياساتها الإقليميّة، في تناقض صارخ مع المعاناة اليوميّة للمواطنين.

يعتقد زماني أنّ هذه الظروف، على قسوتها، لا تقود تلقائيّاً إلى انفجار شعبيّ. فالافتراض القائل إنّ التدهور المعيشيّ يفضي حتماً إلى الثورة يتجاهل عاملاً نفسيّاً حاسماً: الخوف المتراكم. فعندما يواجه المجتمع دولة لا تعترف بأيّ “خطوط حمر” في القمع، يصبح الصمت، في نظر كثيرين، خياراً عقلانيّاً للبقاء. وبالتالي سيتوقّف ظهور انتفاضة جديدة على كيفيّة تصادم هاتين القوّتين: شعب دُفع إلى حافة الهاوية، ونظام بنى بقاءه على الخوف المُتعمَّد.

لكنّ هذا لا يعني، كما يشير زماني، غياب أصوات المعارضة، إذ تعود للظهور تعبيرات تحدٍّ متفرّقة لكن واضحة. ففي جنازة خسرو علي كردي، وهو محامٍ بارز في مجال حقوق الإنسان ومؤيّد للملَكيّة يُشتبه في اغتياله، هتف المشيّعون علناً “يحيا الملك” و”تحيا إيران”، وهما شعاران مرتبطان بالمعارضة الملكيّة الإيرانيّة. ومثل هذه الأحداث ليست نادرة، فالإيرانيّون ينتهزون أيّ فرصة متاحة للتعبير عن معارضتهم. وشهدت الأشهر الأخيرة تزايداً في حوادث العنف السياسيّ المنسوبة إلى عناصر تابعة للنظام. ونظراً لهذا النمط، قد يتوقّع المرء أن تولّد مثل هذه الأحداث موجة صدمة جديدة قادرة على حشد المجتمع.

غير أنّ زماني يطرح سؤالاً جوهريّاً: أما تزال مثل هذه الأحداث قادرة، في السياق الراهن، على إحداث صدمة تعبويّة واسعة؟

يشير زماني الى بعض التحليلات المتعلّقة بإيران التي تقول بأنّ حدثاً صادماً واحداً يمكن أن يشعل تعبئة جماهيريّة واسعة

تراجع قوّة الأحداث الصّادمة

يشير زماني الى بعض التحليلات المتعلّقة بإيران التي تقول بأنّ حدثاً صادماً واحداً يمكن أن يشعل تعبئة جماهيريّة واسعة، كما أشعل إحراق محمد بوعزيزي لنفسه فتيل الأزمة التونسيّة عام 2011، أو كما حفّزت وفاة مهسا أميني إيران عام 2022. لكنّه يرى أنّ “أثر الصدمة” محدود في إيران اليوم. فعندما يمر مجتمع ما بالعديد من الكوارث الاقتصاديّة والبيئيّة والسياسيّة والأخلاقيّة تفقد الصدمة نفسها تأثيرها. وعندما تتحوّل الكارثة إلى أمر معتاد، تضعف قدرتها على توليد فعل جماعيّ. ولهذا السبب استعان بعض علماء الاجتماع الإيرانيّين بمفهوم “العجز المكتسَب” الذي صاغه “مارتن سيليغمان” لوصف حالة يتوقّف فيها الأفراد عن المحاولة لأنّهم باتوا مقتنعين بأنّ جهودهم لن تُحدث فرقاً، إذ مع تفاقم هذا التآكل النفسيّ يبدأ الكثيرون في استيعاب شعورٍ باليأس يُعزّز بدوره التقاعس السياسيّ.

يضيف زماني أنّ النظام الإيرانيّ عمل، بالتوازي مع القمع المباشر، على تطوير أدوات أكثر تعقيداً لإجهاض أيّ حراك محتمل من خلال التضليل الإعلاميّ والمراقبة الرقميّة والتحكّم في الفضاء الإلكتروني. تستهدف هذه الأدوات معارضةً مشتّتة أصلاً، فيصبح بناء جبهة موحّدة أمراً بالغ الصعوبة. ويشير إلى أنّ هناك دراسات حديثة تبيّن أنّ فعّاليّة الحركات الاحتجاجيّة، سواء كانت سلميّة أو عنيفة، تراجعت عالميّاً مع تطوّر تقنيّات السيطرة التي تعتمدها الأنظمة الاستبداديّة.

لكنّ العامل الأكثر حسماً، في نظر الباحث، يبقى تماسك النخبة الحاكمة. فالتاريخ يُظهر أنّ الثورات لا تنجح بسبب اتّساع الغضب الشعبي فقط، بل عندما يشعر الناس بأنّ النظام نفسه منقسم وعاجز عن الحفاظ على وحدته.  ويميّز زماني “بين تمرّد الناس على نظامٍ ما، وبين أن تتوَّج الانتفاضة بثورة. فالتمرّد يحدث عندما يقرّر الناس أنّ مخاطر التقاعس تفوق مخاطر العمل. أمّا الثورات فتتطلّب شروطاً إضافيّة: أزمة اقتصاديّة مستمرّة، تراجع قدرة الدولة والأهمّ من ذلك تشرذم النخب. وبينما يتوافر العديد من المتطلّبات الهيكليّة للثورة في إيران، حافظت النخب على تماسكها إلى حدّ كبير. وقد صُمّم النظام الحاكم بعناية لمنع الانقلابات والانشقاقات من خلال التلقين الأيديولوجيّ، المراقبة الداخليّة، تداخل التسلسل الهرميّ القياديّ والحوافز المادّيّة المرتبطة بالفساد والمحسوبيّة”.

تعيش إيران اليوم، وفق تحليل مسعود زماني، حالة توازن هشّ: مجتمع منهك ومدفوع إلى حافة اليأس ونظام ضعيف بنيوياً لكنّه لا يزال قادراً على فرض سيطرته بالقوّة

مع ذلك، لا يستبعد زماني حدوث تشرذم النخبة الحاكمة في المستقبل، إذ يرى أنّ تضافر الضغوط الداخليّة المتمثّلة في الانهيار الاقتصاديّ وفشل الحوكمة، مع صدمات خارجيّة كبرى مثل صراع عسكريّ واسع، قد يؤدّي إلى إجهاد النظام ويفتح الباب أمام صراعات داخليّة بين النخب. وعندها فقط، قد يتغيّر إدراك الشارع لمعادلة المخاطر ويشعر بأنّ لحظة الفعل الجماعيّ قد حانت.

سكون ما قبل الانتفاضة

يخلص الباحث إلى أنّ الصبر الشعبيّ الراهن لا يعكس قبولاً بالأمر الواقع، بل ما يسمّيه “التأجيل العقلانيّ”. فالغضب يتراكم والضغط يزداد، لكنّ الانفجار يُؤجَّل إلى أن تتوافر شروط النجاح. وعندما تحين تلك اللحظة، قد يأتي التمرّد على نحو مفاجئ وسريع. وهذه الديناميكيّة هي التي دفعت العديد من المعلّقين إلى القول إنّ انتفاضة شعبيّة أخرى في إيران مسألة وقت لا أكثر.

 إقرأ أيضاً: فريدمان: ترامب يريد حرباً أهليّة جديدة

تعيش إيران اليوم، وفق تحليل مسعود زماني، حالة توازن هشّ: مجتمع منهك ومدفوع إلى حافة اليأس ونظام ضعيف بنيوياً لكنّه لا يزال قادراً على فرض سيطرته بالقوّة. ويقول: “الانهيار الاقتصاديّ، التدهور البيئيّ، تآكل الشرعيّة واليأس الاجتماعي، جميعها عوامل حاضرة بقوّة. ما ينقص فقط هو الشرخ الحاسم داخل النخبة الحاكمة الذي من شأنه أن يُقنع الشعب بإمكان نجاح ثورة جماهيريّة. وإلى أن يحدث ذلك، ستبقى إيران في حالة جمود وسكون مشحون يسبق، على الأرجح، تحوُّلاً لا يمكن تجاهله”.

 

لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

الشّرق رهين الأزمات: 2026 عام إدارة الصّراعات لا حلّها

يتوقّع خبراء دوليون أن تكون منطقة الشرق الأوسط في عام 2026 أكثر هشاشة، معتبرين أنّه سيكون عاماً مفصليّاً في رسم ملامح العقد المقبل للمنطقة، إذ…

منفى الأسد وعائلته: احتفالات باذخة تحت الحراسة

يبدو أنّ بشار الأسد وعائلته، كما حاشيته المقرّبة، وجدوا ملاذاً آمناً ومترفاً في روسيا، بحسب تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” كشف لمحاتٍ من حياة الرفاهية والبذخ…

مسؤول إيرانيّ سابق: التّغيير ممكن في حياة المرشد

من زنزانته، رفض السياسيّ الإصلاحيّ الإيرانيّ نائب وزير الداخليّة الإيراني الأسبق مصطفى تاج زاده فكرة انتظار وفاة المرشد الأعلى لإحداث التغيير، معتبراً أنّ تحوّلات كبرى…

فريدمان: ترامب يريد حرباً أهليّة جديدة

يرى الكاتب والمحلّل السياسيّ الأميركيّ توماس فريدمان أنّ استراتيجية الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب للأمن القوميّ تكشف حقيقة عميقة عن إدارته الثانية، وهي أنّها جاءت إلى…