انقضى عامٌ من عمر الحكومة الحاليّة في لبنان ولم تتحقّق الآمال التي كانت معلّقة عليها. عمر هذه الحكومة، مبدئيّاً، هو ثمانية عشر شهراً تنتهي في أيّار المقبل، الموعد الدستوريّ للانتخابات النيابيّة، ما لم تؤدِّ التجاذبات السياسيّة الراهنة إلى تأجيل الانتخابات. هكذا تكون الحكومة قد هدرت، حتّى الآن، ثلثي عمرها المفترَض، دون أن تحقّق إنجازات مهمّة.
الإنجازات المقصودة هنا هي الإنجازات الاقتصاديّة، أو تلك التي تتعلّق بإدارة الدولة. ولا نحتسب ما تحقّق أو لم يتحقّق على صعيد الأمن، لأنّ الملفّات الأمنيّة الأساسيّة، كما هو واضحٌ، وقضايا الحرب والسلم مع إسرائيل يمسكها رئيس الجمهوريّة بالتفاعل مع القوى الدوليّة المؤثّرة في موضوع الصراع اللبنانيّ الإسرائيليّ.
أكبر امتحان لفعّاليّة الحكومة والسلطات الدستوريّة هو إخراج لبنان من الأزمة المصرفيّة عبر إصدار التشريع الذي يحرّر النظام المصرفيّ من عنق الزجاجة
الفائض بسبب الذّهب؟
الملاحظ أنّ أهمّ المؤشّرات الاقتصاديّة الإيجابيّة المسجّلة هذا العام لم تنشأ عن تقدّم فعليّ في الأداء الاقتصاديّ، ولا كانت انعكاساً لسياسات الحكومة أو قراراتها، بل هي تعبير عن أرقام خادعة غيّرت المشهد الاقتصاديّ في البلاد دون أيّ عناء من الحكم أو الحكومة. فقد اختفى فجأة العجز التقليديّ والمزمن في الماليّة العامّة وحلّ محلّه توازنٌ مفاجئ بين الإيرادات والنفقات، ليس لأنّ الحكومة نجحت في تحقيق حلم الإصلاح الماليّ القديم، بل لأنّها اعتمدت أرقاماً في الموازنة العامّة بعيدة كلّ البعد عن الواقع. لقد تجاهلت، على وجه الخصوص، التزامات على الدولة، إن لم تكن آنيّة فهي مقبلة حتماً في المستقبل القريب.
إلّا أنّ أكثر ما يدعو إلى الدهشة هو الفائض الكبير في ميزان المدفوعات الذي يسجّل عجوزات سنويّة متواصلة منذ سنة 2011، فإذا به يحقّق فائضاً بحدود 3 مليارات دولار في الأشهر العشرة المنصرمة من هذا العام. تردّ التقارير الاقتصاديّة هذا الانقلاب في رصيد الأموال الوافدة والخارجة من البلد إلى ارتفاع صافي الأصول الأجنبيّة لمصرف لبنان، أي إلى ارتفاع سعر الذهب الذي لا فضل فيه للحكومة.
ماذا عن القضايا التي يعود الفضل فيها إلى القرارات الحكوميّة؟
أكبر امتحان لفعّاليّة الحكومة والسلطات الدستوريّة هو إخراج لبنان من الأزمة المصرفيّة عبر إصدار التشريع الذي يحرّر النظام المصرفيّ من عنق الزجاجة، فينقذ ما يمكن إنقاذه من أموال المودعين، ويعيد ترميم النظام المصرفيّ ليستعيد دوره في تمويل الاقتصاد.
لقد تأخّرت الحكومة كثيراً في إنجاز هذا القانون، خصوصاً أنّ البلاد تنتظر ولادته منذ ستّ سنوات وليس من تاريخ تشكيل الحكومة الحاضرة. ويبدو أنّ ولادة “قانون الفجوة الماليّة” ما تزال متعثّرة بدليل استمرار الخلافات عليه، وآخر فصولها هو اللغة الناريّة التي صاغت بها جمعيّة المصارف كتابها المفتوح قبل يومين الذي قالت فيه إنّ المشروع تعتريه عيوب جسيمة، واتّهمته بأنّه يقوّض النظام المصرفيّ واستدامته ويطيل أمد الركود الاقتصاديّ ويتسبّب بخسائر فادحة للمودعين.
إذا كانت الحكومة تعتقد أنّ بوسعها إقرار مشروع القانون بالشكل الذي تريد، يجب أن تعي أنّ المصارف ليست ضعيفة في مجلس النوّاب، وخصوصاً في اللجان النيابيّة
المصارف ليست ضعيفة
يسلّط بيان جمعيّة المصارف الضوء على المحور الأساسيّ للصراع بين الدولة والمصارف في المرحلة المقبلة. ففيما تتبرّأ الدولة من المسؤوليّة الأساسيّة عن الأزمة، وبالتالي عن تحمّل كلفتها، وترغب بتحميل العبء الأكبر للمصارف، تتسلّح هذه الأخيرة بقانون النقد والتسليف لتطالب الدولة بتحمّل الوزر الأكبر في كلفة إعادة الودائع.
الحقيقة أنّ المسؤوليّة تقع على الطرفين معاً وليس على طرف واحد منهما. الدولة مسؤولة قانوناً ومنطقيّاً عن تغطية خسائر المصرف المركزيّ، فهو مؤسّسة تملكها الدولة وخاضع لرقابتها المباشرة، وهي ملزمة بتغطية خسائره عاماً بعد عام. أمّا المصرفيّون فيتحمّلون جزءاً كبيراً من المسؤوليّة لأنّهم اندفعوا بحماسة نحو توظيف أموال المودعين في المصرف المركزيّ طمعاً بأرباح لا سابق لها، أغراهم بها الحاكم السابق رياض سلامة، بمعرفة وزراء الماليّة وتشجيعهم، عبر الهندسات الماليّة وأدوات دين بفوائد فاحشة.
إقرأ أيضاً: البنوك في مواجهة “الفجوة”: نحن (الأمر) “الواقع”
ينذر هذا الخلاف القديم الجديد بإطالة عمر الأزمة إلى ما شاء الله على حساب أموال المودعين وعلى حساب النظام الاقتصاديّ ككلّ.
إذا كانت الحكومة تعتقد أنّ بوسعها إقرار مشروع القانون بالشكل الذي تريد، يجب أن تعي أنّ المصارف ليست ضعيفة في مجلس النوّاب، وخصوصاً في اللجان النيابيّة. لقد تمكّنت المصارف في السنوات الماضية من ردّ كلّ مشاريع القوانين التي لا تناسبها، بفضل “أصدقائها” الخلّص في اللجان.
بانتظار جلاء هذه المعركة الطويلة، سوف يستمرّ النزف من حقوق المودعين ومن الاقتصاد اللبنانيّ.
