قيادة العالم: من أكبر قنبلة إلى الذّكاء الاصطناعيّ..

مدة القراءة 6 د

عند نهاية الحرب العالميّة الثانية، دخل العالم مرحلة جديدة حدّدتها حقيقة واحدة مقلقة: دولة واحدة فقط كانت تمتلك السلاح النوويّ. ثبّت هذا الاحتكار، وإن كان قصير الأمد، موقع الولايات المتّحدة كقوّة عالميّة مهيمنة. منذ تلك اللحظة، أصبحت القدرة النوويّة الرمز الأقصى للسيادة والردع والتفوّق الاستراتيجيّ. على مدى عقود، جرى قياس القيادة العالميّة بمن يمتلك القنبلة، ومن يستطيع إيصالها، ومن ينجح في ردع الآخرين عن استخدامها… إلى أن عرف العالم الذكاء الاصطناعيّ.

 

بعد نحو ثمانية عقود، يقف العالم عند منعطف تاريخيّ مشابه. لم تعد التكنولوجيا الحاسمة ذرّيّة، بل رقميّة يمثّلها الذكاء الاصطناعيّ، مدعوماً في المستقبل القريب بالحوسبة الكمّيّة (Qantum Computing). السؤال الذي يواجه صانعي القرار اليوم يشبه سؤال ما بعد عام 1945: هل تضمن الدولة التي تقود العالم في الذكاء الاصطناعيّ والحوسبة الكمّيّة موقع القيادة والهيمنة العالميّة؟ هل يجعل ذلك السعي إلى التفوّق في هذه المجالات أكثر أهميّة من السعي إلى امتلاك السلاح النوويّ؟

منح السلاح النوويّ القوّة بطريقة محدّدة جدّاً: قوّة مركزيّة، تحت سيطرة الدولة، وظيفتها الأساسيّة الردع لا الاستخدام. لم تكن قيمته في تفجيره، بل في التهديد الكامن فيه. أنتج هذا الواقع نظاماً دوليّاً ثنائيّاً أو متعدّد الأقطاب، يقوم على الردع والخطوط الحمر والخوف الوجوديّ. على الرغم من أنّ الاستقرار الذي فرضه الردع النوويّ سمح بازدهار اقتصاديّ وتكنولوجيّ في بعض المناطق، لم يكن السلاح النوويّ نفسه أداة إنتاج أو تنمية. لم يصنع الازدهار، بل منع الكارثة من خلال الردع والتهديد بالتدمير المزدوج.

صُمّم السلاح النووي ليكون صعب الانتشار: موادّ نادرة، بنى تحتيّة هائلة، وخبرات محكمة الرقابة. وهو ما سمح لنادٍ ضيّق من الدول بالتحكّم بالهندسة الأمنيّة العالميّة.

في القرن الحادي والعشرين، ستنتقل القيادة العالميّة من أولئك القادرين على تدمير العالم، إلى أولئك القادرين على إعطاء نموذج ناجح والتنبّؤ به وتحسينه

ليس سلاحاً وإنّما تكنولوجيا عامّة

يقلب الذكاء الاصطناعيّ، على النقيض، هذا النموذج رأساً على عقب. ليس الذكاء الاصطناعيّ سلاحاً بالمعنى التقليديّ. إنّه تكنولوجيا عامّة، شبيهة بالكهرباء أو محرّك الاحتراق الداخليّ أو الإنترنت. لا تكمن قوّته في التدمير، بل في التسريع والتحسين والتوسّع. الدولة التي تقود في الذكاء الاصطناعيّ لا تحصد تفوّقاً عسكريّاً فحسب، على الرغم من أنّ ذلك حاصل، بل تعيد تشكيل الاقتصاد العالميّ، سوق العمل، البحث العلميّ، الرعاية الصحّيّة، الاستخبارات، سلاسل الإمداد، حتّى أنماط الحكم واتّخاذ القرار.

أمّا الحوسبة الكمّيّة فتضاعف هذا الأثر. هي قادرة على كسر أنظمة التشفير الحاليّة، تسريع اكتشاف الأدوية، تحسين إدارة الموارد وحلّ مشكلات تتجاوز قدرة الحواسيب التقليدية. يشكّل الذكاء الاصطناعيّ والحوسبة الكمّية معاً بنية تكنولوجيّة تعيد كتابة قواعد القوّة في القرن الحادي والعشرين.

هنا يصبح التشابه مع السلاح النوويّ أكثر وضوحاً: كما أعاد السلاح النووي تشكيل منظومة الأمن العالميّ، ستعيد هذه التقنيّات تشكيل النظام الدوليّ، لكن بشكل أعمق وأكثر شمولاً.

ما إن تمتلك عدّة دول السلاح النوويّ، حتّى تتقلّص الفوارق، ويستقرّ النظام عند توازن ردعيّ. أمّا الذكاء الاصطناعيّ، فيكافئ القيادة المستمرّة. البيانات، المواهب، رأس المال والقدرات الحاسوبيّة تتراكم بمرور الوقت. لا تحافظ الدولة المتقدّمة على تفوّقها بالسرّيّة وحدها، بل عبر منظومات متكاملة: جامعات، شركات ناشئة، منصّات تكنولوجيّة وتحالفات دوليّة.

بهذا المعنى، الريادة في الذكاء الاصطناعيّ أكثر ديمومة من التفوّق النوويّ، فهي تحدّد من يضع المعايير التقنيّة، من يفرض قواعد التجارة الرقميّة ومن تُدمج قيمه ولغته ونظمه القانونيّة في الخوارزميّات التي تدير العالم.

لن تدافع الدول التي تقود في الذكاء الاصطناعيّ والحوسبة الكمّيّة عن نفسها بشكل أفضل، بل ستحدّد كيف يعمل العالم اقتصاديّاً وسياسيّاً ومعرفيّاً

بالنسبة إلى كثير من الدول، وخصوصاً القوى المتوسّطة والناشئة، المعادلة واضحة: السعي إلى امتلاك السلاح النوويّ بات ذا عوائد محدودة وتكاليف سياسيّة واقتصاديّة وأخلاقيّة مرتفعة، ويستجلب العقوبات والعزلة وسباقات التسلّح. في المقابل، يُعدّ الاستثمار في الذكاء الاصطناعيّ مشروعاً، مُنتجاً اقتصاديّاً وذا استخدامات مزدوجة بطبيعته.

قد تحصل الدولة التي تستهلك مواردها المحدودة في سباق نوويّ على مكانة رمزيّة في منظومة الأمن، لكنّها تخاطر بالتخلّف في المجالات التي ستحدّد التنافس الحقيقيّ: الإنتاجيّة، التعليم، الذكاء والمرونة الاقتصاديّة. أمّا الدولة التي تستثمر في البنية التحتيّة الحاسوبيّة، تنظيم البيانات، تنمية الكفاءات والبحث العلميّ، فتعزّز عناصر القوّة الشاملة كافّة.

هذا لا يعني أنّ السلاح النوويّ فقدَ أهميّته. لا يزال صمام أمان أخيراً للردع. لكنّه لم يعد معيار القيادة، بل معيار البقاء.

فارق جوهريّ بين العصرين

مع ذلك، يوجد بين العصر النوويّ وعصر الذكاء الاصطناعيّ فارق جوهريّ: الانتشار. الذكاء الاصطناعيّ أصعب احتواءً. تنتقل الخوارزميّات أسرع من اليورانيوم، والشركات الخاصّة باتت فاعلاً مركزيّاً إلى جانب الدول، والنماذج المفتوحة المصدر تضعف الخطّ الفاصل بين القادة والتابعين. هذا يجعل القوّة أقلّ احتكاراً، لكنّه يزيد من هشاشة النظام.

لا يتعلّق سباق الذكاء الاصطناعيّ فقط بمن يطوّر أفضل النماذج، بل بمن يحكمها، يضبط استخدامها ويمنع إساءة توظيفها على نطاق واسع. لذلك لن تكون القيادة من نصيب الأسرع فحسب، بل من نصيب الأكثر مسؤوليّة.

يُعدّ الاستثمار في الذكاء الاصطناعيّ مشروعاً، مُنتجاً اقتصاديّاً وذا استخدامات مزدوجة بطبيعته

بُني النظام العالميّ بعد الحرب العالميّة الثانية على الردع النوويّ. أمّا النظام الناشئ فيُبنى على الهيمنة الخوارزميّة. لن تدافع الدول التي تقود في الذكاء الاصطناعيّ والحوسبة الكمّيّة عن نفسها بشكل أفضل فحسب، بل ستحدّد كيف يعمل العالم اقتصاديّاً وسياسيّاً ومعرفيّاً.

المقارنة مع السلاح النوويّ صحيحة، لكنّها غير مكتملة. جمّد السلاح النوويّ العالم عند توازن هشّ. سيعيد الذكاء الاصطناعيّ تشكيله وهو في حالة حركة دائمة.

إقرأ أيضاً: أميركا للشّرق الأوسط: لن نكون هنا دائماً

في القرن الحادي والعشرين، ستنتقل القيادة العالميّة من أولئك القادرين على تدمير العالم، إلى أولئك القادرين على إعطاء نموذج ناجح والتنبّؤ به وتحسينه. لم يعُد السباق على أكبر قنبلة، بل على أذكى آلة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mouafac

مواضيع ذات صلة

ترامب يُخضع نتنياهو ويخترق جدار “الحركة”

هناك شبه إجماع في إسرائيل على أنّ نتنياهو سار مخفور اليدين أمام الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب وانصاع لطلبه الموافقة على الخطّة. وأحدثت موافقة حركة “حماس”…

إیران و”قشّة” المفاوضات مع التّرويكا الأوروبيّة

اللقاء بين إيران ودول الترويكا الأوروبيّة الذي استضافته مدينة إسطنبول التركيّة على مستوى مساعدي وزراء الخارجية، لم يصل إلى نتيجة واضحة، وكانت مخرجاته منزلةً بين…

العفو عن نتنياهو… تمهيداً للتّسوية الكبرى؟

منتشياً بالهجوم على إيران وتدميره مشروعها النووي، نصّب الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه “عرّاباً” لإسرائيل، سامحاً لنفسه بالتدخّل بالقضاء الإسرائيلي عبر المطالبة بإلغاء محاكمة بنيامين…

قلعة نووية في باطن الجبال: حقائق وأرقام “فوردو”؟

لماذا تعتبر منشأة فوردو أساسيّة لإنهاء البرنامج النّوويّ الإيرانيّ؟ ولماذا تسعى تل أبيب إلى دفعِ واشنطن لضربِ هذه المنشأة؟ وماذا تمتلك الولايات المُتّحدة من وسائل…