محمّد بركات حامل مفاتيح الجنّة

مدة القراءة 5 د

“دار الأيتام وجدتني، وأنا وجدت نفسي. الانتماء قضيّة أساسيّة، وأنا اعتبرت أنّ الله اختارني لمنصب مدير مؤسّسة الأيتام. أمّا التصاق اسم شخص بعمل معيّن، فهذا ليس من شأن الشخص. وأنا لم أقُل للناس عن نفسي. حصلتُ على أربعة أوسمة. لكنّ كلّ من يسألني من الناس “إنت شو؟”، أقول له: “أنا محمّد بركات تبع دار الأيتام!”.

 

بهذه الكلمات اختصر الراحل الكبير محمّد بركات مسيرته الطويلة مع دار الأيتام الإسلاميّة. لا بل اختصر مسيرة العمل الرعائيّ البيروتيّ صناعةً وصفةً والتباساً.

ارتبط اسم محمّد بركات باسم الأيتام، وارتبط اسم الأيتام ووجوههم البريئة بمحمّد بركات، فكانا توأمَي الروح والفكرة. لم يستثمر محمّد بركات في دموع الأيتام، ولا آلامهم، وما استغلّ أوجاعهم ولا مآسيهم كي يجذب الناس. جعل منهم منتج فرح. فكان ذاك الشعار الشهير في شهر رمضان من ابتكاره: “سعداء معكم، سعداء فيكم، رح تبقى بيروت تقول”، ثمّ كان ذاك الشعار الرائع: “ما دمتم بخير نحن أيضاً بخير”. وصفه يوماً نهاد المشنوق بحامل مفاتيح الجنّة، استناداً إلى قدرة بركات في إقناع المتبرعين أنه يحجز لهم مكاناً في الجنّة.

صانع الفرح

لم يقتصر عمل محمّد بركات على رعاية الأيتام. لقد رعانا كلّنا نحن البيارتة في عزّ الحرب. كان كلّ شيء في الحرب الأهليّة وما بعدها يشي بالحزن والموت و”الخطف على الهويّة” وخطوط التماسّ والقصف العشوائيّ والاختباء في الملاجئ. وحده محمّد بركات حملنا وحمل أيتامه فوق كلّ المآسي. أصرّ على تزيين شوارعنا عند كلّ شهر رمضان، وأصرّ على مواكب الفرح ترحيباً بشهر الصيام. كنّا نهرول أطفالاً مع أهلنا الى الشرفات، ونلوّح لتلك المواكب وهي تحمل الأيتام وزينتهم وأعمالهم ونماذجهم المعبّرة من هلال وفانوس ودمى. نهلّل معهم، نكبّر معهم، وكأنّنا في مؤسّسة واحدة يرعاها شخص اسمه محمّد بركات.

لم يقتصر عمل محمّد بركات على رعاية الأيتام. لقد رعانا كلّنا نحن البيارتة في عزّ الحرب

يقول السلف الصالح إنّ اليتيم بركة والمسح على رأسه صدقة. أمّا محمّد “تبع الأيتام” فجمع كلّ البركة فكان بركات، وحوّل ابتسامته الدائمة مفتاحاً للفرج والأمل، وفتح الأبواب فكان محمّداً من الحمد والشكر.

دخل إلى دار الأيتام وهي مبنى صغير تركه أخيار بيارتة، ولأنّه يعشق “منقل النار” ويبحث عنه داخل الحدود وخارجها، جعل من دار الأيتام منقلاً للنار يلتفّ حوله الأيتام كي يشعروا بالدفء والحنان والرعاية.

محمد بركات

نمَت معه الدار، وبدل مبنى واحد صارت اثنين وثلاثة وأربعة، حتى صارت حين تقاعد 45 مركزاً، وبدل الغرفة بات هناك مئات الغرف، وبدل الأسرّة المعدودة أصبحت هناك آلاف الأسرّة. غيّر كلّ شيء في مؤسّسة دار الأيتام إلّا مكتبه الذي كما دخل إليه خرج منه، وكان يردّ على كلّ من كان يقول له “أيمتى بدنا ننفض المكتب”: “وليش البعزقة، في شي أهمّ”.

لقد أتعبتهم يا بركات..

أتعب محمّد بركات كلّ من أتى بعده إلى دار الأيتام، وألغى سيرة كلّ من جاء قبله وبعده للعمل برعاية الأيتام. رفع السقف عالياً مع أنّه مربوع القامة فلم يرعَ فرحنا نحن البيارتة وأيتامه فقط، بل صنع لنا أكثر من ذلك: عرّفنا على غازي بكداشي وإيداعاته. أخذنا في عزّ الحرب ورعبها الى قصر الأونيسكو وكنّا أيتاماً فقراء، ميسورين، علماء، سياسيّين، ومقاتلين. أجلسنا على الكرسي هناك وقال لنا: توقّفوا عن مشاهدة الحرب. شاهدوا “فراس ودولابه الفصيح”، فأنشدنا معه ورقصنا معه وهلّلنا معه واكتشفنا معه فنّاناً بيروتيّاً كبيراً اسمه أحمد قعبور ما يزال صوته يقول في آذاننا من دون توقّف: “أناديكم أشدّ على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم…”.

صنع لنا النشيد والأغنية “من مرحى مرحى جيبوا الطرحة لبيروت إلى علّوا البيارق علّوها”، التي باتت نشيداً رمضانيّاً لكلّ الأجيال.

ارتبط اسم محمّد بركات باسم الأيتام، وارتبط اسم الأيتام ووجوههم البريئة بمحمّد بركات، فكانا توأمَي الروح والفكرة

هذا هو محمّد بركات ابن جمعيّة المقاصد الذي حزّ في قلبه قبل وفاته أن تقاضي “المقاصد” دار الأيتام من أجل عقار. فكيف يكون ذلك والمؤسّستان توأمان؟

عندما تركبون سيّارة تبغون التوجّه إلى الطريق الجديدة عند مفرق أبي خضر، أتحدّاكم أن لا تقولوا لسائق التاكسي وصّلنا إلى دار الأيتام. لقد جعل من ذاك المكان عنواناً ليس للأيتام فقط، بل لكلّ البيارتة. إنّه بيروت بروحها وتاريخها وعاداتها. إنّه محمّد بركات “تبع الايتام”.

لبنان كلّه تقبُّل العزاء بمحمّد بركات. السُّنّة النبويّة تقول إنّ العزاء ثلاثة أيّام. إلّا أنّ العزاء بمحمّد بركات لا يُختصر بأيّام. لم يكن الرجل يحبّ الحزن ولا النحيب ولا اللطم. ما اعتاد لا هو ولا البيارتة كلّ هذه الأفعال. تحوّل الرجل بعد رحيله الى صدقة جارية في كلّ قرية وضيعة وشارع وعائلة رعى فيها يتيماً.

إقرأ أيضاً: محمد بركات.. “محقِّق” الأحلام

ها هو يتيم أصبح طبيباً وآخر مهندساً وثالث محامياً ورابع جنديّاً. هؤلاء كلّهم أولاده. هؤلاء كلّهم صدقة جارية حسابها عند ربّه يوم القيامة، حين يفرّ كلّ امرئ من أمّه وأبيه وصاحبته وبنيه إلّا محمّد بركات الذي سيقف أمام ربّه وخلفه كلّ أيتام بيروت وناسها وأهلها وأطفالها الذين كانوا يفرحون بزينته ونشيده في شهر رمضان شهر الرحمة والبركات.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ziaditani23

مواضيع ذات صلة

نوح وسفينته خلف القضبان: طوفان الدّولة؟

لم يكن توقيف نوح زعيتر قبل أيّام بموجب مئات المذكّرات خبراً أمنيّاً عابراً. بدا كأنّه صدمة صغيرة في بلد اعتاد الصدمات، لكنّها هذه المرّة تمسّ…

ميشال عيسى… لاعبُ غولف في ميدان لبنان

من هو السّفير الأميركيّ الجديد في لبنان ميشال عيسى؟ ما الذي دفعَ الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب لاختياره؟ ما هي مهمّته؟ ماذا يعني تعيينه؟   ينتظر…

إسكندر حبش… كتب ليُصغي ومات كجملةٍ لم تكتمل

على مثال صباحات لبنانيّة حزينة استيقظت بيروت في خريفها على موت إسكندر حبش، الشاعر والمترجم والصحافيّ الثقافيّ بعد صراع مع مرض السرطان. وكأنّه أكمل الجملة…

طليع حمدان يلتحق بالجوقة: لبنان ينقص بستان قوافٍ

على أبواب الشتاء، غادرنا آخر شعراء الزجل الكبار، طليع حمدان. برحيله تُطوى صفحة ناصعة من تاريخ لبنان والزجل والربيع.   لن تشخص عيون اللبنانيّين نحو…