يرى الكاتب والمحلّل السياسيّ الأميركيّ توماس فريدمان أنّ استراتيجية الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب للأمن القوميّ تكشف حقيقة عميقة عن إدارته الثانية، وهي أنّها جاءت إلى واشنطن لخوض حربٍ أهليّةٍ ثالثة في أميركا، لا لخوض حربٍ باردة جديدة في الغرب.
يعتبر فريدمان في مقاله الأسبوعيّ في صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ استراتيجية ترامب تكشف أنّ أولويّات أميركا لم تعُد مواجهة روسيا أو الصين، بل باتت تتمحور حول الهجرة والهويّة والثقافة باعتبارها التهديد الأكبر للولايات المتّحدة والغرب. بل ويحذّر من أنّه ما لم ينتخب الأوروبيّون مزيداً من الأحزاب “الوطنيّة” القوميّة التي تتعهّد بوقف الهجرة، ستواجه أوروبا “محواً حضاريّاً”، أي أنّ الحكم على هذه الدول لن يكون بجودة ديمقراطيّتها، بل بمدى تشدّدها في وقف تدفّق المهاجرين، خصوصاً من الدول الإسلاميّة نحو جنوب أوروبا.
وفقاً لفريدمان، “هذه اللغة غير مسبوقة في السياسة الأميركيّة، وتدلّ على أنّ إدارة ترامب الثانية جاءت لخوض حربٍ أهليّةٍ – ثقافيّة – داخليّة قبل خوض أيّ صراع عالميّ”. السؤال الذي يشغل الأميركيّين اليوم هو: “لِمن تنتمي هذه البلاد؟” وسط تغيّرات ديمغرافيّة وثقافيّة وتكنولوجيّة واقتصاديّة سريعة جعلت ملايين المواطنين يشعرون بعدم الاستقرار وفقدان “الوطن” بمعناه النفسيّ والاجتماعيّ.
“نعم، نحن نخوض حرباً أهليّة جديدة من أجل أرضٍ تُسمّى الوطن”، يكتب فريدمان. يرى أنّ “الحرب الأهليّة الأميركيّة الثالثة التي تُخاض اليوم، كما في الحرب الأهليّة في ستّينيّات القرن التاسع عشر والصراع الأهليّ الكبير الثاني، حركة الحقوق المدنيّة في ستّينيّات القرن العشرين واغتيال مارتن لوثر كينغ جونيور، تدور حول سؤالين: لِمن تنتمي هذه البلاد في نهاية المطاف؟ ومن الذي يحقّ له أن يشعر بالانتماء في بيتنا الوطنيّ؟”.
يؤكّد فريدمان أنّ القضيّة ليست الهجرة فقط، بل إنّ الحرب الأهليّة الثالثة في أميركا تُخاض على جبهات متعدّدة
الحرب في بدايتها
يحذّر من أنّ هذه الحرب الأهليّة لا تزال في بدايتها. عندما يفقد الناس الشعور بالانتماء إلى الوطن، سواء بسبب الحرب، أو التغيّرات الاقتصاديّة السريعة، أو التغيّرات الثقافيّة، أو التغيّرات الديمغرافيّة، أو تغيّر المناخ، أو التغيّرات التكنولوجيّة، يفقدون توازنهم. قد يشعرون وكأنّهم يُقذَفون في دوّامة، ويتشبّثون بيأسٍ بأيّ شيء يبدو ثابتاً بما يكفي للإمساك به، بما في ذلك أيّ قائد يبدو قادراً على إعادتهم إلى ذلك المكان الذي يُسمّى “الوطن”، حتّى لو كان ذلك القائد مخادعاً أو كانت الوعود غير واقعيّة.
وإذ يشير إلى أنّ عدد المهاجرين في العالم اليوم يفوق 304 ملايين شخص، بعضهم يبحث عن عمل، وبعضهم عن تعليم، وبعضهم عن الأمان من الصراعات الداخليّة، وبعضهم يفرّ من الجفاف والفيضانات وإزالة الغابات، يلفت إلى أنّ عدد المهاجرين عند الحدود الجنوبيّة الأميركيّة وحدها ارتفع إلى 14 مليوناً في عام 2023، منهياً عقداً من الاستقرار النسبيّ.
يؤكّد أنّ “القضيّة ليست الهجرة فقط، بل إنّ الحرب الأهليّة الثالثة في أميركا تُخاض على جبهات متعدّدة:
– جبهة مقاومة العديد من الأميركيّين البيض، ومعظمهم من المسيحيّين، لظهور أميركا جديدة تهيمن عليها الأقلّيّات، مدفوعة بانخفاض معدّلات المواليد بين الأميركيّين البيض وارتفاع نسب المجموعات اللاتينيّة والآسيويّة والمتعدّدي الأعراق.
– جبهة استمرار الأميركيّين السود في مكافحة محاولات بناء “جدران” جديدة تمنعهم من الشعور بالانتماء إلى الوطن.
– جبهة محاولة أميركيّين من مختلف الخلفيّات تثبيت أقدامهم وسط تيّارات ثقافيّة تتغيّر أسبوعيّاً: توقّعات جديدة في قضايا كالهويّة، ودورات المياه، وحتّى نوع الخطّ المستخدَم، علاوة على كيفيّة تعاملنا مع بعضنا في الأماكن العامّة.
– جبهة رياح التغيير التكنولوجيّ العاتية، المدفوعة اليوم بالذكاء الاصطناعيّ الذي يجتاح أماكن العمل بسرعة تفوق قدرة الناس على التكيّف.
– جبهة كفاح الشباب الأميركيّين من جميع الأعراق والمعتقدات والألوان للحصول على مسكنٍ ولو متواضعاً، ذلك الملاذ المادّي والنفسيّ الذي لطالما رسّخ الحلم الأميركيّ”.
استراتيجية ترامب تكشف أنّ أولويّات أميركا لم تعُد مواجهة روسيا أو الصين، بل باتت تتمحور حول الهجرة والهويّة والثقافة
الأميركيّون مشرّدون نفسيّاً
يكتب فريدمان: “اليوم يستيقظ ملايين الأميركيّين كلّ صباح غير متأكّدين من الأعراف الاجتماعيّة أو السُلّم الاقتصاديّ أو المعايير الثقافيّة المقبولة في وطنهم. إنّهم مشرَّدون نفسيّاً”.
يعتبر أنّه عندما يصبح “الجدار” الذي بناه ترامب على طول الحدود المكسيكيّة رمزاً لحماية هويّة أميركا من التغيير الثقافيّ والرقميّ والجيليّ الذي يعصف بالحياة اليوميّة، وليس حاجزاً حدوديّاً وحسب، وعندما يرى محلّلون أنّ حركة MAGA باتت أقرب إلى روسيا بوتين، التي تُقدَّم مدافعةً عن “القيم المسيحيّة البيض”، وأكثر بعداً عن أوروبا الغربيّة التي تستقبل مهاجرين كُثُراً وتتمسّك بالتعدّديّة، وعندما تصبح “حماية الحضارة الغربيّة”، مع التركيز على العِرق والدين، محور الأمن القوميّ الأميركيّ، لن يكون التهديد الأكبر روسيا أو الصين، بل “الهجرة غير المنضبطة إلى أميركا وأوروبا”.
هكذا تصبح أولويّات الأمن القوميّ الأميركيّ حماية “الحضارة الغربيّة” من الهجرة والتغيّرات الثقافيّة، وجعل “الصحّة الروحيّة والثقافيّة” للأمّة جزءاً من الأمن القوميّ، وليس حماية الديمقراطيّة أو مواجهة خصومها الكبار.
إقرأ أيضاً: تقرير إسرائيليّ يفصّل العمليّات: الضربة حتميّة
في رأي فريدمان: “هذه هي الخلفيّة العميقة لاستراتيجية ترامب للأمن القوميّ. فهو لا يهتمّ بإعادة خوض الحرب الباردة للدفاع عن حدود الديمقراطيّة وتوسيعها، بل يريد خوض حربٍ حضاريّةٍ من أجل ما هو “الوطن الأميركي” وما هو “الوطن الأوروبيّ”، مع التركيز على العِرق والعقيدة المسيحيّة اليهوديّة، ومن هو الحليف في هذه الحرب ومن ليس كذلك. لهذا السبب ليست استراتيجيته للأمن القوميّ وليدة الصدفة أو نتيجة عمل حفنة من أصحاب الأيديولوجيات المحدودة، بل هي في الواقع بمنزلة حجر رشيد يفسّر ما يحرّك هذه الإدارة فعلاً في الداخل والخارج”.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا
