بهشلي – بارزاني: خطّان متوازيان… يلتقيان؟

مدة القراءة 6 د

شهدت العلاقات بين أنقرة وإربيل خلال الأعوام الأخيرة تقدّماً ملموساً تجاوز الكثير من العقبات، مدفوعةً بتقاطع المصالح وبناء قنوات ثقة متدرّجة. لكنّ  “حادثة شرناق” وضعت هذا المسار أمام اختبار سياسيّ مفاجئ لم تتّضح بعد آثاره ولا حجم ارتداداته.

 

كانت البداية مشهداً لا يتجاوز ثواني: مقطع فيديو لعناصر من البيشمركة بزيّهم العسكريّ يوفّرون الحماية لمسعود بارزاني داخل الأراضي التركيّة، خلال مشاركته في فعّاليّة ثقافيّة لإحياء ذكرى الشاعر الكرديّ ملّا جزراوي في مدينة شرناق الحدوديّة. كان مشهداً بالإمكان أن يعالَج بهدوء لولا انتشاره السريع على مواقع التواصل الاجتماعيّ، فوصفه دولت بهشلي زعيم حزب “الحركة القوميّة” وشريك الرئيس إردوغان في تحالف الجمهور بأنّه “أمر مشين”.

ما جرى خلال زيارة بارزاني، وما تلاه من ردّ بهشلي، ثمّ دخول مكتب بارزاني على خطّ السجال، وصولاً إلى موقف أنقرة من مجمل المشهد، حوَّلت الحدث إلى اختبار جديد لحساسيّة التعامل مع الملفّ الكرديّ أكثر منه خلافاً سياسيّاً مباشراً بين أنقرة وإربيل.

بهشلي… رافع الثّلوج

تزداد أهميّة موقف بهشلي بالنظر إلى موقعه في إدارة الملفّ خلال العام الأخير، إذ لعب دوراً يشبه رافع الثلوج من طريق تهيئة المناخ لاعتماد مقاربات أكثر مرونة قد تفتح المجال أمام اختراقات في ملفّ معقّد ومزمن يعني الأتراك والأكراد على حدّ سواء.

تلقى جهود بهشلي ترحيباً واسعاً من قبل الكثيرين داخل تركيا وخارجها. لماذا يتخلّى عن كلّ ذلك بعد قبول المغامرة والمخاطرة؟

كانت انتقادات الزعيم القوميّ اليمينيّ المتشدّد باتّجاه الداخل التركيّ، لكنّ أحدهم قرّر أن يكون شريكاً عبر رسائل التصعيد التي أغضبت الحكم والمعارضة في تركيا، فمَن المستفيد؟

تلقى جهود بهشلي ترحيباً واسعاً من قبل الكثيرين داخل تركيا وخارجها

حاول بيان حكومة إقليم كردستان تطويق التوتّر وإعادة النقاش إلى مربّع السلام، فيما اكتفى بهشلي لاحقاً بالتشديد على أنّه سيبقى “في موقع الذئب الرماديّ”، متجاهلاً الكثير من الردود الأخرى. لكنّ تفاعلات الحادثة تجاوزت محاولات التهدئة، ودفعت نحو الحاجة إلى مراجعة جادّة لما جرى ولما كشفه من هشاشة وثغرات في إدارة المسار التركيّ – الكرديّ الجديد. يتعامل الداخل التركيّ مع هذه الملفّات بحذر شديد لأنّ أيّ خطوة أو إشارة يمكن أن تتحوّل سريعاً إلى مادّة سياسيّة مشتعلة، تتقاطع عندها الحسابات الانتخابيّة والأمنيّة والحزبيّة.

تتدحرج الأسئلة من شرناق إلى إربيل بلا إجابات واضحة: هل تتسبّب “مشكلة تنظيميّة” في هدم جسور التقارب؟ هل كان ما جرى انفعالاً عابراً أم مؤشّراً إلى هشاشة المسار الجديد؟ هل يتمكّن بهشلي وبارزاني من الالتقاء فوق خطّين متوازيَين على الرغم من التباينات العميقة في الطروحات والمقاربات؟

بهشلي

أظهر الفيديو الذي بدا فيه عناصر البيشمركة داخل الأراضي التركيّة بالزيّ العسكريّ ثغرات في إجراءات الاستقبال، لكنّه كشف أيضاً عن أزمة ثقة متبادلة ما تزال قائمة بين الطرفين على الرغم من كلّ خطوات الانفتاح. لذلك لا يمكن النظر إلى ما حدث بوصفه “حادثة بروتوكوليّة” فقط، بل اختبار فعليّ لمسار سياسيّ تحاول أنقرة وإربيل إعادة بنائه على أسس جديدة.

استقبال دافىء لبارزاني

تكشف جزئيّات ما جرى عن حجم التعقيد: استقبال رسميّ دافىء لبارزاني، يقابله ظهور البيشمركة بلباسهم العسكريّ مسلّحين ينتشرون في المكان، وهو ما فجّر ضجّة سرعان ما تلقّفتها المعارضة التركيّة، مطالبة وزارات الخارجيّة والدفاع والداخليّة بتوضيحات رسميّة. هكذا تحوّلت مشاهد ميدانيّة مفاجئة إلى هزّة سياسيّة بدأت من “معبر خابور” ووصلت ارتداداتها إلى أنقرة وإربيل.

ما يقدّمه بهشلي وما يتحرّك نحوه بارزاني منذ عام في إدارة ملفّ شديد التعقيد يؤكّدان أنّ كسر قاعدة عدم التقاء الخطّين المتوازيَين ليس مستحيلاً

يرجّح كثيرون أن تهدأ الأمور في نهاية المطاف، وأن يُصار إلى توصيف ما جرى بأنّه “تقصير غير مقصود” أو “سوء إدارة بروتوكوليّة”، باعتباره مخرجاً مقبولاً يمنح الطرفين فرصة تجنّب التصعيد بدون خسائر إضافيّة، ويفتح الباب أمام إعادة توجيه النقاش نحو حماية المسار السياسيّ بدل الانزلاق إلى سجالات جانبيّة.

جاء بيان حكومة الإقليم لاحقاً مشبعاً بعبارات “السلام” و”الاستقبال الحارّ”، وبالتشديد على دعم المسار السياسيّ بتركيا في الملفّ الكرديّ، في محاولة واضحة لإعادة تثبيت الصورة الأصليّة للزيارة وإبعادها عن ضجيج الاتّهامات المتبادلة.

تحمل الأزمة دروساً مهمّة: ما يجمع أنقرة وإربيل اليوم أكبر ممّا يفرّقهما، والمسار الجديد لا يمكن التضحية به بسبب حادثة لا يحتاج إليها الطرفان في هذه الآونة.

مساحة جديدة للتّفاهم

وفّرت البيئة المحيطة بتركيا وإقليم كردستان للجانبين مساحة جديدة للتفاهم والتعاون يجب استثمارها إذا كان الهدف هو التأسيس لعلاقة راسخة  تحمي مصالحهما. تستدعي المرحلة المقبلة الكثير من الحذر السياسيّ ووضع آليّات تمنع تكرار حوادث مشابهة قد تؤثّر على الثقة المتبادلة وعلى جهود بناء علاقة مستقرّة طويلة المدى.

لن يكفي التوتّر الذي فجّرته “حادثة بروتوكوليّة” لجرّ الأمور نحو استنتاج يشي بهشاشة العلاقة، بل يسلّط الضوء على ضرورة صون هذا المسار وتعزيز ثوابته. العلاقة التي بُنيت بصعوبة بين أنقرة وإربيل لم تعُد تُقاس بأخطاء بروتوكوليّة أو إشكالات عابرة، بل بموازين مصالح أوسع لا تسمح بالعودة إلى مربّع القطيعة. لا تسمح الظروف الداخليّة في تركيا ولا الحسابات الكرديّة ولا التوازنات الإقليميّة بعودة عقارب الساعة إلى الوراء.

إقرأ أيضاً: روسيا تعود إلى سوريا الجديدة: من حليف إلى لاعب “احتياطي”

الدرس الأهمّ هو الاستثمار في ما جرى بوصفه اختباراً إضافيّاً لمسار يتقدّم ببطء لكن بثبات، وفي قدرة الطرفين على تحويل التحدّي إلى فرصة، لا إلى أزمة جديدة. ما يقدّمه بهشلي وما يتحرّك نحوه بارزاني منذ عام في إدارة ملفّ شديد التعقيد يؤكّدان أنّ كسر قاعدة عدم التقاء الخطّين المتوازيَين ليس مستحيلاً… في السياسة على الأقلّ.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

أجواء برّي: تعديل اتّفاق الهدنة… وقف النّار أوّلاً

أفسح تعيين مفاوض مدنيّ هو السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد العسكريّ إلى اجتماعات لجنة “الميكانيزم” في المجال أمام البحث في حلول سياسيّة ممّا كان…

اللّبنانيّون يرفضون الانتحار… مع “الحزب”!

سؤال واحد يَختزل الموضوع اللبنانيّ كلّه، أي موضوع التخلّص من الاحتلال الإسرائيليّ المتجدّد لأراضٍ في الجنوب. خروج الاحتلال أولويّة الأولويّات: هل من سبيل إلى ذلك…

رسائل الغوطة: أسد تَلاعَب به شبلٌ!

لا تكشف الفيديوهات المسرّبة عن رحلة الرئيس السوريّ السابق بشّار الأسد إلى الغوطة في 20 نيسان 2018 عن مفاجأة تذهل السوريّين، موالين له أو معارضين….

رواية واحدة لا تبني وطناً… الحريري صانع “الاستقلال الثّاني”

لبنان هو أرض الطوائف، لكنّ هذا لا يعني أنّه محكوم بالهيمنة الطائفيّة. هناك من يريده دولة مدنيّة، دولة تقوم على المواطنة، وليس على الانتماء المذهبيّ…