لم يكن الثامن من كانون الأوّل/ديسمبر 2024 تاريخ سقوط نظام بشار الأسد، بقدر ما كان لحظة إعلان الوفاة الرسمية لنظام ظلّ يتآكل منذ سنوات طويلة. التصدّع الحقيقي بدأ عام 2005، عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتوسّع النفوذ الإيراني في دمشق، لتبدأ شقوق السلطة بالظهور داخل بيت الأسد، وخصوصاً بين الأخوين بشار وماهر من جهة، ورجالات “الحرس القديم” من جهة أخرى.
وسط هذا المشهد، برز اسم آصف شوكت، نائب وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات العسكرية، وصهر العائلة، كأحد أبرز وجوه الصراع داخل النظام. رحلة شوكت انتهت باغتياله عام 2012، لكن مسار تصفيته دام سنوات، تخلّلته محاولات متكررة لتهميشه ثم إلغاء دوره نهائياً.
2000 – 2005: شوكت يدخل بيت الأسد… وقلق مستمرّ
منذ اللحظة الأولى لارتباطه ببشرى الأسد، كان آصف شوكت موضع رفض داخل العائلة. تركت الفوارق الاجتماعية أثرها، وظلّ القرار الحقيقي بقبوله مؤجلاً إلى ما بعد وفاة باسل الأسد عام 1994، حين تزوّجته بشرى رغم اعتراض الأخوين بشار وماهر.
مع وصول بشار إلى الرئاسة عام 2000، بدا أنّ شوكت يحاول تثبيت موقعه داخل تركيبة أمنية يسيطر عليها شقيقا الرئيس. لكن اغتيال رفيق الحريري عام 2005 وما تلاه من عزل دولي للنظام شكّلا نقطة تحوّل، إذ بدأ كل جناح يشكّ بالآخر، وازداد القلق من أي شخصية تمتلك علاقات خارجية أو شبكات نفوذ مستقلة.
2006- 2010: ترقيات ظاهرها صعود… وباطنها تهميش
لاحقاً، تلقّى شوكت سلسلة ترقيات شكليّة – من استخبارات الجيش إلى الاستخبارات العسكرية ثم نائب وزير الدفاع – أراد منها بشار وماهر إخراجه من الحلقة الضيّقة للقرار الأمني، وإبعاده عن الملفات الحسّاسة. بدا الرجل، وفق مصادر مقرّبة من ماهر الأسد، كمن يخضع لعملية “اغتيال سياسي بطيء”.
مع وصول بشار إلى الرئاسة عام 2000، بدا أنّ شوكت يحاول تثبيت موقعه داخل تركيبة أمنية يسيطر عليها شقيقا الرئيس
في تلك المرحلة، بدأت العلاقة بين شوكت والإيرانيين تتدهور. توصّلت استخبارات الحرس الثوري، وفق المصادر نفسها، إلى قناعة بأنّ شوكت هو من سرّب مكان وجود القائد العسكري في “حزب الله” عماد مغنية للـCIA. هذا الاتهام بقي مضمراً لكنه رسم خطّ مواجهة مكتوم بين طهران وشوكت.
2011: محاولة التسميم الأولى
مع بداية الثورة السورية عام 2011، تحوّل الشكّ داخل بيت الأسد إلى عداء. في حزيران من العام نفسه، تعرّض آصف شوكت لمحاولة تسميم داخل منزله. جرى دسّ المادة السامّة في طعامه عبر زوجين يعملان لديه، بإشراف مباشر من غسان بلال، نائب قائد الفرقة الرابعة والمسؤول عن أمن ماهر الأسد.

أُصيبت الغالبية الساحقة من العاملين في المنزل بالتسمم، وتوفي عدد منهم، فيما نجا شوكت من الموت. لكن هذه الحادثة شكّلت الدليل الأوضح على أنّ قرار التخلّص منه قد اتّخذ بالفعل.
شباط 2012: “هجوم كفرسوسة” المفبرك
بعد ثمانية أشهر، جرت محاولة ثانية أكثر جرأة. نفّذت مجموعة مسلّحة هجوماً على منزل شوكت في كفرسوسة، جرى نسبه يومها إلى فصيل من “جيش الإسلام”. غير أنّ التحقيقات الداخلية أثبتت لاحقاً أّن العملية كانت “مفبركة”، وأنّ غسان بلال نفسه أشرف على تنسيق انسحاب الحماية المحيطة بالمنزل لتسهيل الهجوم، بالتنسيق مع رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك.
نجا شوكت مرة أخرى، لكن الهجوم ثبّت قناعته بأنّ دائرته الخاصة باتت مخترقة بالكامل، وأنّ من يحاول قتله ليس المعارضة بل النظام نفسه.
تموز 2012: القرار النهائي… وتصفيته داخل “خلية الأزمة“
في 18 تموز 2012، وصل الصراع إلى محطته الأخيرة. كان اجتماع “خلية الأمن القومي” منعقداً في مبنى الأمن القومي بدمشق، بحضور كبار القادة: آصف شوكت، وزير الدفاع داوود راجحة، حسن تركماني، هشام بختيار، ووزير الداخلية محمد الشعار.
برز اسم آصف شوكت، نائب وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات العسكرية، وصهر العائلة، كأحد أبرز وجوه الصراع
بحسب معلومات متقاطعة من داخل الفرقة الرابعة، تولّى ماهر الأسد الإشراف على العملية منذ لحظتها الأولى. إذ جرى إدخال عبوة ناسفة صغيرة خلال التفتيش الأمني الصباحي، وزُرعت تحت طاولة الاجتماع قبل وصول المجتمعين. وفي معلومات أخرى أنّ المتفجّرة زُرعت تحت السقف الاصطناعي لقاعة الاجتماعات.
عند الساعة 11:40 تقريباً، دوّى الانفجار. قُتل شوكت وراجحة وتركماني على الفور، فيما أصيب بختيار إصابة قاتلة أودت به بعد أيام. أما محمد الشعار فنجا بعصف الانفجار، من دون أن يكون مقعده هو المستهدف أساساً.
رغم تبنّي “الجيش الحر” للعملية، بقيت الدلائل تشير إلى أنّ الاغتيال كان تصفية داخلية، لحسم صراع السلطة داخل بيت الأسد.
الغياب الصامت لبشرى الأسد
الأكثر دلالة كان غياب بشرى الأسد عن جنازة زوجها وتركها لدمشق لاحقاً للعيش في دولة الامارات مع أولادها. طوال مسيرته داخل النظام، كانت تدرك حساسية موقعه، لكن عدم حضورها ودّاعه الأخير اعتُبر اعترافاً ضمنياً بأنها مقتنعة بأن يد النظام نفسه امتدت إليه.
إقرأ أيضاً: سنة على سقوط الأسد: إنقشاع الوهم
خُتمت قصة آصف شوكت عام 2012، لكن تداعياتها بقيت تتردد في دهاليز النظام حتى السقوط النهائي في 2024. كشف اغتياله حجم التوحّش داخل السلطة، وكيف تحوّلت المؤسسة الأمنية إلى مسرح تصفيات داخلية وصراع نفوذ. كانت تلك اللحظة أول انهيار جوهري في منظومة الأسد، التي ظلّت تتآكل حتى لحظة نهايتها.
في الحلقة الثانية غداً: “أساس” يكشف تفاصيل اغتيال اللواء غازي كنعان
لمتابعة الكاتب على X:
