يشهد جبل العرب في السويداء تصاعداً لافتاً في صراع النفوذ، بعدما تحوّلت مجموعة مسلّحة تابعة لرئيس الهيئة الروحيّة لطائفة الموحّدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، إلى ميليشيا عسكريّة مؤثّرة تضمّ 31 فصيلاً وعدداً يُقدَّر بالآلاف. هذه القوّة التي يقدِّمها أنصارها بوصفها “حماية للمنطقة” تواجه منذ فترة انتقادات حادّة من مرجعيّات دينيّة داخل السويداء نفسها، بالإضافة إلى حكومة دمشق التي تصفها بأنّها “مجموعات خارجة عن القانون”.
لكنّ الشرارة التي أشعلت الاحتقان الداخليّ مجدّداً قبل أيّام جاءت عقب حادثة محدّدة، لم تُكشف حقائقها بعد، تسبّبت في تفجير سجال واسع داخل الطائفة وبين الفصائل نفسها، ودفعت مرجعيّات دينيّة إلى رفع سقف خطابها ضدّ هذه المجموعة، وهو ما فتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع أكثر توتّراً وتعقيداً ممّا سبق.
شكّل اعتقال الشيخ رائد المتني نقطة تحوّل حادّة، وهو الرجل الذي كان مكلّفاً سابقاً من قبل الشيخ الهجري بحفظ الأمن والدفاع عن السويداء، وأحد المسؤولين في المجلس العسكريّ الذي تشكّل عقب سقوط النظام الأسديّ. بحسب بيان “الحرس الوطنيّ” التابع للهجري، جاء اعتقال المتني مع آخرين بتهمة التعامل مع حكومة الشرع و”محاولة الانقلاب” على الشيخ الهجري.
دفع هذا الاتّهام مسلّحي الهجري إلى تنفيذ مداهمات واسعة، أبرزها مداهمة منزل مدير الأمن في السويداء، الشيخ سليمان عبد الباقي. تفاقم المشهد بعد اعتقال الشيخ ماهر فلحوط، قبل إعلان مقتله تحت التعذيب بتهمة التعاون مع الحكومة السوريّة، فانفجرت موجة غضب في الجبل، وتعمّق الشرخ بين المرجعيّات الدينيّة والفصائل المختلفة.
رواياتان متناقضتان
تواصل موقع “أساس” مع أحد المسؤولين المقرّبين من الشيخ حكمت الهجري، الذي نفى بشكل قاطع أن يكون الهجري على علم مسبق بالتصرّفات المهينة التي تعرّض لها المشايخ خلال توقيفهم، من حلق اللحى والشوارب وصولاً إلى التعذيب. أكّد المصدر أن لا علاقة لوفاة المعتقلين بظروف التوقيف، وأنّ الهجري وفريقه استنكروا بشدّة المشاهد التي ظهرت في الصور والفيديوهات، معتبرين أنّها لا تليق بعادات وتقاليد الموحّدين ولا بمرجعيّتهم الروحيّة.
لا يتردّد مناوئو الشيخ الهجري داخل السويداء في اتّهامه بـ”اختطاف طائفة كاملة” عبر إحكام السيطرة على القرار الدينيّ والأمنيّ في الجبل
أشار المسؤول إلى أنّ ما جرى كان نتيجة حالة غضب وانفعال داخل بعض المجموعات تجاه كلّ من يُشتبه بتعاونه مع جهات خارجيّة أو بخيانته للهيئة الروحيّة. أضاف أنّ الشيخ الهجري غضب بشدّة عندما اطّلع على ما حدث، ودعا إلى وقف هذه الممارسات وعدم تكرارها تحت أيّ ظرف، مؤكّداً أنّ “الحفاظ على كرامة المشايخ وأهالي السويداء خطّ أحمر”، وتمّ توقيف واحتجاز عناصر بعد ارتكابهم تصرّفات مخالفة للانضباط العسكريّ.
يضيف مصدر حقوقيّ مطّلع في حديثه إلى “أساس” أنّ ما يجري في السويداء اليوم هو أشبه بسلطة أمر واقع تحاول فرض نفسها على المدينة خارج أيّ إطار قانونيّ أو قضائيّ. يشير إلى أنّ بعض المجموعات التي تمارس هذه الانتهاكات كانت قد تعرّضت سابقاً للمعاملة نفسها خلال أحداث السويداء، وهي الآن تعيد إنتاج الأسلوب ذاته بحقّ أبناء منطقتها، في دوّامة ثأريّة لا علاقة لها بالمحاسبة أو العدالة، بل تعكس انهيار منظومة الضبط داخل المحافظة.

يشدّد المصدر الحقوقيّ على أنّ استمرار هذه الانتهاكات في غياب أيّ مساءلة حقيقيّة ينذر بمزيد من الفوضى داخل السويداء، معتبراً أنّ المشهد الحاليّ تجاوز قدرة الجهات المحليّة على ضبطه. لهذا يؤكّد أنّ دخول محقّقين دوليّين إلى المحافظة بات ضرورة ملحّة اليوم قبل الغد، من أجل توثيق الانتهاكات ووقف تكرارها، ووضع حدّ لسلطة الأمر الواقع التي تفرض أحكامها بلا محاكمات، وبلا أيّ معايير قانونيّة أو إنسانيّة.
في المقابل، لا يتردّد مناوئو الشيخ الهجري داخل السويداء في اتّهامه بـ”اختطاف طائفة كاملة” عبر إحكام السيطرة على القرار الدينيّ والأمنيّ في الجبل، معتبرين أنّ ثمّة نهجاً جديداً لدى الهجري يقوم على قمع أيّ صوت معارض أو منتقد للدور المتنامي للفصائل المسلّحة المرتبطة به. يرى هؤلاء أنّ سلسلة الاعتقالات الأخيرة وما رافقها من ممارسات عنيفة ليست سوى مؤشّر إضافي إلى توجّهٍ لفرض واقع جديد في السويداء، واقع يُقصي المخالفين ويعزّز سلطة جهة واحدة دون غيرها.
يضيف مصدر حقوقيّ مطّلع في حديثه إلى “أساس” أنّ ما يجري في السويداء اليوم هو أشبه بسلطة أمر واقع تحاول فرض نفسها على المدينة
تباين بين الهجري وطريف
بحسب معلومات خاصّة بـ”أساس”، هناك تباين في الرأي بين الزعيم الروحيّ للطائفة الدرزيّة في إسرائيل موفّق طريف والشيخ حكمت الهجري، ويحذّر الأوّل الثاني من أيّ دعوات إلى الانفصال عن الدولة، ويؤكّد عليه أن يركّز جهوده على توفير الوقود والغذاء والمياه لأهالي المحافظة، بدل الانشغال بخطوات قد تؤدّي إلى حرب داخليّة درزيّة في السويداء. يشير طريف أيضاً إلى أنّه “مش كلّ عائلة تستطيع أن تمارس الزعامة”، في إشارة إلى أنّ القيادة الروحيّة والفكريّة للطائفة ليست حقّاً وراثيّاً أو مرتبطاً بالأسرة فقط، بل مسؤوليّة تفرضها الكفاءة والالتزام بحماية الطائفة وخدمة أهلها.
يبقى السؤال الأبرز: هل يمكن لهذه الحوادث أن تُستغلّ مبرّراً لتدخّل أمنيّ وعسكريّ من قبل دمشق داخل السويداء مرّة أخرى؟ أم أيّ تحرّك عسكريّ جديد ستستخدمه إسرائيل حجّةً للتدخّل في المنطقة، في سياق التوتّرات المستمرّة بين الأطراف الإقليميّة والدروز؟
إقرأ أيضاً: شهادات وأرقام المساجين السوريين: روميّة ولا الأسد..
يضع هذا التساؤل الصراع المحلّيّ في السويداء في خانة خطِرة للغاية، إذ تتحوّل الخلافات الداخليّة والفوضى المسلّحة إلى أداة محتملة في الصراع الإقليميّ الأوسع، وهو ما يزيد من هشاشة الاستقرار ويهدّد أمن الجبل بأكمله.
لمتابعة الكاتب على X:
