لم تخسر إيران سوريا فجأة مع دخول قوّات هيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمّد الجولاني إلى مدينة حلب مطلع كانون الأوّل 2024، ولا مع الانهيار السريع الذي تُوّج بوصول هذه القوّات إلى العاصمة دمشق بعد ثمانية أيّام وإعلان هروب بشّار الأسد تحت جنح الظلام. غير أنّ هذا المشهد السريع كشف هشاشة البنية التي استند إليها النظام السوريّ وحلفاؤه، وقيّد قدرة طهران وموسكو على إعادة التموضع أو حماية مصالحهما، وأفقدهما الوقت اللازم لاستيعاب التحوّل الكبير الذي انفجر في الجغرافيا السوريّة.
إنّ المسار الحقيقيّ للخسارة الإيرانيّة يعود إلى تمّوز 2015، عندما قبلت طهران بالقرار الروسيّ بالتدخّل العسكريّ المباشر في سوريا، وهو ما وضع يد موسكو على القرار الميدانيّ وأعاد صياغة قواعد الاشتباك. تكرّس هذا المسار عام 2017 حين فرضت روسيا خطوطاً حمراً على التحرّكات الإيرانيّة وقوّات “الحزب”، خصوصاً في الجنوب السوريّ، ومنعت أيّ نشاط من شأنه استفزاز إسرائيل أو خلق تهديد مباشر لأمنها. دفع هذا التقييدُ إيرانَ إلى إعادة انتشار وجودها نحو مناطق وسط البلاد، مع حضور محسوب في العاصمة دمشق.
توفير غطاء شرعيّ
ارتكزت الرؤية التي دفعت إيران إلى التورّط العميق في سوريا على قناعة قاسم سليماني بأنّ دمشق تشكّل “رأس الجسر” في استراتيجية تطويق إسرائيل، وأنّ سقوطها يعني ضرب العمق الاستراتيجيّ للمحور الممتدّ من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت. انسجم المرشد الأعلى مع هذه الرؤية، فوفّر لها الغطاء العقائديّ والشرعيّ، معتبراً أنّ الدفاع عن سوريا هو دفاع عن إيران، وأنّ سقوط دمشق يعني سقوط طهران، رافضاً أيّ انتقاد، حتّى من شخصيّة بحجم هاشمي رفسنجاني، لطريقة تعامل النظام السوريّ مع المعترضين.
تُظهر التطوّرات بين 2024 و2025 أنّ إيران تواجه مرحلة تراجع استراتيجيّ عميق، خسرت خلالها سوريا، وتقلّص نفوذها في لبنان
على الرغم من الرواية الإيرانيّة التي روّجت لدور سليماني في إقناع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بالتدخّل، أكّد وزير الخارجيّة السابق محمّد جواد ظريف أنّ قرار موسكو كان مفروضاً على طهران، وأنّ إيران كانت قد نجحت حتّى ذلك الوقت في إعادة سيطرة الأسد على “سوريا المفيدة”، بما يكفي لحماية النظام ومصالحها الإقليميّة.
كانت الإشارة الأخطر التي لم تلتقطها طهران هي اغتيال سليماني مطلع كانون الثاني 2020 قرب مطار بغداد، وهو الحدث الذي دشّن فعليّاً مسار محاصرة النفوذ الإيرانيّ في الإقليم. بعد إخراج سليماني من المشهد أُوكِل إلى الأمين العامّ لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله سدّ الفراغ القياديّ، لكنّ هذا التغيير منح الأسد مساحة أوسع لتحرير قراراته من الرقابة الإيرانيّة، بالاستفادة من الوجود الروسيّ ومن التنافس بين موسكو وطهران، فبدأ تدريجاً البحث عن قنوات عربيّة لإعادة تعويم نظامه، في مسار انعكس على انتشار “الحزب” داخل سوريا وأدّى إلى تقليص وجوده إلى مستوى يضمن فقط حماية خطوط إمداده من العراق.
توسّع الهوّة بين موسكو وطهران
مع توسّع الهوّة بين موسكو وطهران، تقلّصت الطموحات الإيرانيّة بالوصول إلى سواحل المتوسّط أو المشاركة في مشاريع الطاقة المستقبليّة عبر سوريا. تحوّل الوجود الإيرانيّ إلى محاولة للبقاء في المشهد السوريّ بالحدّ الأدنى الذي لا يرفضه الروس ولا يستبعده الأسد، مقابل وعود غير مؤكّدة باستثمارات عربيّة محتملة.

ثمّ جاءت الضربة الكبرى مع سقوط النظام السوريّ نهاية 2024، واضعةً إيران أمام حقيقة قاسية: فقدان الحلقة المركزيّة في مشروع نفوذها الإقليميّ:
– اقتصاديّاً، خسرت طهران مليارات من الدولارات أنفقتها على البنى التحتيّة والدعم الاقتصاديّ للنظام السوريّ، وارتفعت الأصوات داخل إيران للمطالبة بالكشف عن مصير هذه الأموال المقتطعة من حقّ المواطن الإيرانيّ.
– عقائديّاً، دخلت تساؤلات عن مسوّغات منح لقب “شهداء الدفاع عن الحرم” لأكثر من ألف مقاتل من الحرس الثوريّ قُتلوا في سوريا، ومدى أحقيّة النظام السوريّ بهذه التضحيات.
تدرك إيران أنّ خسارة العراق ستكون أثقل من خسارة سوريا، نظراً لحساسيّة الجوار الجغرافيّ
في الداخل الإيراني، تعمّق الجدل داخل المؤسّسة العسكريّة للحرس الثوريّ بعد كانون الثاني 2024، مع الاعتراف بأنّ المسار يسير نحو خسارة استراتيجيّة هي الأوسع منذ تأسيس الجمهوريّة الإسلاميّة. تزامن ذلك مع الخسارة التي واجهها “الحزب” في لبنان، ونجاح إسرائيل في فرض معادلات جديدة بعد حرب متعدّدة الجبهات رسّخت تفوّقها الإقليميّ.
أمّا الهزيمة الأشدّ إيلاماً فجاءت من تركيا التي استطاعت عبر استثمار طويل في المعارضة السوريّة و”هيئة تحرير الشام” أن تغيّر موازين القوى على الأرض، فلا تضعف الوجود الإيرانيّ في سوريا وحسب بل تنهيه.
اكتمال دائرة الخسائر
في حزيران 2025، اكتملت دائرة الخسارة عندما فتح سقوط الأسد الطريق أمام إسرائيل للتحرّك مباشرة نحو قلب المشروع الإيرانيّ. شنّت تل أبيب، بالتعاون مع واشنطن، هجوماً عسكريّاً واسعاً داخل العمق الإيرانيّ استباح المجال الجغرافيّ للمرّة الأولى منذ عقود، وأدّى إلى اغتيال قيادات عسكريّة ونوويّة وتدمير منشآت صاروخيّة ونوويّة أساسيّة. كان الهدف من الضربة، في حال لم يسقط النظام، تعطيل قدرة إيران على إعادة توازنها الإقليميّ والحدّ من أيّ نهوض جديد لمشروعها.
إزاء هذا الواقع، اضطرّت طهران إلى إعادة صياغة سياستها الأمنيّة، والانتقال من الهجوم إلى الدفاع، والبحث عن مقاربات جديدة لملفّ دمشق، بعيداً عن الاستعجال. دفع التعقيد الداخليّ السوريّ المتراكم من التوتّرات بين دمشق والمكوّنات الدينيّة في الساحل والسويداء إلى ضبابيّة العلاقة مع “قسد”، طهرانَ إلى التريّث وانتظار الشكل النهائيّ للسلطة الجديدة، مع إعلانها دعم قيام نظام سياسيّ يمثّل جميع المكوّنات السوريّة.
فرضت خسارة سوريا على طهران الالتفات إلى الحلقات الأخرى في “محور المقاومة”، لا سيما الساحة اللبنانيّة. يواجه “الحزب” مساراً من التراجع السياسيّ بعد الحرب مع إسرائيل، وتسعى إيران إلى منع تفاقم خسائره وضمان بقائه لاعباً مؤثّراً داخل لبنان، استناداً إلى المعادلات الإقليميّة والدوليّة الجديدة.
تسعى إيران إلى منع تفاقم خسائرالحزب وضمان بقائه لاعباً مؤثّراً داخل لبنان
التحدّي الأكبر في العراق
لكنّ التحدّي الأكبر أمام طهران يبقى العراق. تتعرّض الأحزاب والفصائل المقرّبة منها لضغوط أميركيّة جدّيّة تهدف إلى إنهاء نفوذها بالكامل. تدرك إيران أنّ خسارة العراق ستكون أثقل من خسارة سوريا، نظراً لحساسيّة الجوار الجغرافيّ وانكشاف الداخل الإيرانيّ على أيّ عمل عسكريّ محتمل.
لذلك قد تجد نفسها مضطرّة إلى إعادة النظر في تعاملها مع الدولة العراقيّة والقوى الشيعيّة، وحتّى في مقاربة علاقتها مع واشنطن داخل العراق، بهدف تخفيف الضغوط والحفاظ على الحدّ الأدنى من نفوذها في هذا البلد الذي تحوّل إلى أولويّة أمنيّة واستراتيجيّة.
إقرأ أيضاً: سنة على سقوط الأسد: إنقشاع الوهم
في الخلاصة، تُظهر التطوّرات بين 2024 و2025 أنّ إيران تواجه مرحلة تراجع استراتيجيّ عميق، خسرت خلالها سوريا، وتقلّص نفوذها في لبنان، وتتعرّض لحصار شديد في العراق، بينما تهتزّ جبهتها الداخليّة بعد الضربات العسكريّة والسياسيّة المتلاحقة. هو واقع يدفعها إلى مراجعة شاملة لاستراتيجيتها الإقليميّة للمرّة الأولى منذ عقود.
