من سوء حظّ بشّار الأسد في منفاه أنّهم عندما كانوا ينشرون حديثاً طويلاً له في سيّارته مع مساعدته السابقة لونا الشبل فيه الكثير ممّا يدلّ على تهافت شخصيّته حتّى عندما كان ما يزال في عزّه (الحديث الطويل عام 2018)، كان خليفته أحمد الشرع في مؤتمرٍ بقطر يستمتع بالأضواء ويقول من دون تردّد إنّه قاتل عشرين عاماً ضدّ قاتلي الأطفال والشيوخ، وقد تجنّب دائماً قتل المدنيّين، بل إنّه عمل كثيراً على حمايتهم.
إنّ الإرهاب، بحسب الشرع أيضاً، هو مفهوم غامض ومشكل وأُطلق بحقّ ومن دون حقّ. ولأنّ أميركا والمجتمع الدوليّ (مجلس الأمن) اقتنعوا بأنّ هذه التهمة لا تنطبق عليه، فقد اتّخذوا قراراتٍ برفعها عنه.
لا أعرف إذا كانت الأخبار السيّئة عن الأسد (الذي كان يريد استبدال اسمه العائليّ باسم حيوانٍ آخر!) تخدم الشرع فيما هو في سبيله من بناءٍ لسورية الجديدة. لكنّها ربّما تخدم في ملاحقة أولئك الأقرباء والأنصار للنظام القديم الذين يُقال الآن إنّهم يسعَون عبر تجنيد آلاف العلويّين لإثارة تمرّدٍ ثانٍ بالساحل لإسقاط حكومة الشرع.
لننظر إلى حسن حظّ أحمد الشرع مرّةً ثانيةً وثالثة. في حين كان بشّار يفكّر في حيوانٍ آخر لاسم أُسرته المنكوبة سورية والعرب به وبها، استعاد “الجولاني” هويّته السابقة وصار أحمد وشرعاً. صحيح أنّ ذلك أثقله في نظر الأقليّات بالسنّيّة الرجعيّة، لكنّ المدن السوريّة السنّيّة الكبرى شديدة الفرح والاعتزاز به، ليس لسنّيّته وحسب، بل ولأنّه بالفعل لا ينتهج سبيل الفتك والإخضاع حتّى مع خصومه بالداخل والخارج.
كلّ يومٍ تقريباً يقوم الشرع بمبادرةٍ تصالحيّةٍ تجاه الأقلّويّين النافرين منه
مبادرات تصالحيّة
كلّ يومٍ تقريباً يقوم الشرع بمبادرةٍ تصالحيّةٍ تجاه الأقلّويّين النافرين منه. لماذا النفور؟ الأمر كما ذكر كاهن سريانيّ حضر استقبال البابا أخيراً بلبنان: لقد تعوّدنا على الأسدين، لأنّهما مثلنا ينتمون إلى أقليّة، ولأنّهما ساويانا بالسنّة في السلطة بل فضّلانا عليهم، سواء في الحزب أو في المناصب حتّى الوزاريّ منها. ثمّ إنّنا كنّا شركاءهما التجاريّين، كنّا في أعمالنا الخاصّة نرشو ونعمل، وكثيراً ما كلّفانا القيام بإدارة مشاريعهما بالداخل والخارج. في الآخر ما عاد أحدٌ ينافسنا نحن والعلويّين إلّا الشيعة اللبنانيّين والعراقيّين، لكنّنا ظللنا أبرع منهم. ماذا نستطيع أن نفعل الآن وقد عاد مئات الألوف من المهاجرين السنّة، وعشرات الألوف من التجّار البارعين ورجال الأعمال والصناعيّين! لقد تجدّدت موجات الهجرة التي أعترف أنّها لا تسرّ أحمد الشرع لأنّه يريد مثل الأسدين أن يحصل على سمعة حامي الأقليّات.
أمّا الأكراد فقد صارت عندهم بعد معاناةٍ طويلة دويلة تمتدّ على حوالى ثلث الأرض السوريّة، وفيها المناطق الزراعيّة والمياه وآبار البترول وبعض مناطق الغاز، مع أنّ ثلثَي سكّان هذه المناطق من العرب السنّة! إنّما الأفضل من هذا وذاك بالنسبة لهم أنّ الأميركيّين هم الذين يحمونهم في مواجهة النظام وفي مواجهة الأتراك.
الأميركيّون هم الذين يُسِكِتون الشبّان العرب وأبناء العشائر بمناطقهم بتوظيف أولئك الشبّان في جيش “قسد” بمرتّباتٍ ضئيلة لكن بالدولار! بعد إسقاط الحملة الدوليّة لحكم داعش بالعراق وسورية، ما عادت “قسد” تقوم بمهمّات كبرى بل باتت تحرس معتقلات داعش وأميركا هي التي تنفق.
هناك مشكلة أخرى في مناطق السيطرة الكرديّة تتمثّل في الآلاف المؤلّفة من مجنّدي حزب العمّال الكردستانيّ الذين قدموا من تركيا إلى سورية والعراق للقتال ضدّ داعش، لأنّ الأكراد السوريّين وقتها (2014-2015) ما كانوا يملكون ميليشيا قويّة وكانوا منقسمين بين البقاء مع الثورة السوريّة أو الانضمام إلى الكيان الخاصّ.
أحمد الشرع قيادة متميّزة استطاع ما لم يستطِعه غيره حتّى الآن الأمل بالمستقبل كبير،
إذا تصالح الأكراد مع الشرع بواسطة الأميركيّين فسيكون على هؤلاء المغادرة، لكن إلى أين؟ يُقال إنّ عدّة آلاف أُضيفوا إليهم بعد بدء المصالحة مع الأكراد في تركيا.
السّويداء كانت شبه مستقلّة
لا ينبغي الاستخفاف بتمرّد حكمت الهجري بالسويداء. بعد أن كانت السويداء شبه مستقلّة لا تدخلها قوّات الأسد قبل سنتين على سقوط نظامه. تردّد الأسد كان سببه الإنذار الإسرائيليّ. قامت لهم علاقات مع دروز إسرائيل. وقد حصل تسرّع بدخول قوات الحكومة إلى السويداء والاشتباك مع المسلّحين وتدخّل البدو من داخل المدينة وخارجها حيث سقط قتلى كثيرون من الطرفين.
تدخّلت إسرائيل علناً. أميركا ضدّ حكمت الهجري وحركته، وترى فيه عبئاً على إسرائيل. لكن ينبغي الاهتمام بحركة مراجعة مسائل الهويّة وأيّ انتماء هو الغالب على دروز الجولان (تحت الاحتلال الإسرائيليّ) وأقربائهم من دروز السويداء وحوران والمحيط إلى الحدود الأردنيّة.

هناك الهويّة الدينيّة الخاصّة. وهناك الهويّة القوميّة العربيّة. وهناك الهويّة الوطنيّة السوريّة. وهناك الميزات التي تعرضها إسرائيل وتمارسها مع دروزها. ينبغي التفكير في ذلك بهدوء، فحتّى في لبنان سمعنا أصواتاً مختلفة عن صوت وليد جنبلاط أثناء الاشتباكات على الرغم من التدخّل الإسرائيليّ السافر.
كان العلويّون في السلطة منذ عام 1966 مع تمثيل شكليّ للسنّة عدداً لا نفوذاً. حتّى الجيش عبر أكثر من خمسين عاماً تغيّرت هويّته من حيث مناصب القيادة ومواقع القرار. لنتأمّل في الوعي الجديد للأقلّيّات التي ذكرناها، وللانتقاص حتّى الدينيّ للأكثريّة السنّيّة.
استولى الأكراد على أراض. ثمّ جاء الحزب المسلّح من لبنان وميليشيات العراق والأفغان وباكستان واستولوا على الأرض وهجّروا الفلّاحين السنّة من الغوطتين ومن ضواحي دمشق (السيّدة زينب) وعلى طول القلمون حتّى حمص ثمّ حلب ثمّ الميادين على الحدود العراقيّة. وكل هذه النواحي سنّيّة واستُعبد سكّانها والأغلب أنّهم لم يتقبّلوا ذلك وهاجروا.
يركّز الشرع على التوحيد وإعادة الإعمار اعتماداً على أميركا والسعوديّة وقطر ورجال الأعمال السوريّين
تخفيف ضغوط الأكثريّة
سمعنا في حديث الأسد منذ زمن بعيد عن استعادة التوازن، يعني التخفيف من ضغوط الأكثريّة السنّيّة الساحقة بالقتل والتهجير. سمعنا الأسد في التسجيل يلعن الغوطة وساكنيها، ويسخر من الجنود الذين كانوا يقبّلون يده في سيّارته الفارهة.
ليس في أيّام بشّار فقط، بل وأيّام حافظ الأسد جرى تغيير هويّة الجيش وإدارة الدولة. بلغ الأمر ذروته مع الإيرانيّين الذين اشتغلوا على التشييع وبناء الجامعات والحسينيّات، وتبديل المجتمع أو تهجيره وإحلال آخرين محلّه.
يركّز الشرع على التوحيد وإعادة الإعمار اعتماداً على أميركا والسعوديّة وقطر ورجال الأعمال السوريّين.
لكنّ المهمّات التي وضعها الشرع على عاتقه صعبة جدّاً. قلب الأسديّون والإيرانيّون والأكراد والأتراك سورية رأساً على عقب. لا بدّ من استعادة القوام. شكا أُناس من القُصير بينهم مسيحيّون أنّهم عندما عادوا إلى منازلهم وتفقّدوا جيرانهم وكانوا يظنّونهم مسجونين، وجدوا أنّهم جميعاً قد قُتلوا ومدفونون في مقبرةٍ جماعيّةٍ خارج البلدة.
إقرأ أيضاً: لغز أحمد الشّرع: من خنادق إدلب إلى البيت الأبيض
ليس المطلوب استعادة سورية كما كانت عام 1963 أو عام 1981 أو عام 2010، بل لا بدّ من العضّ على الجراح، وصنع الجديد والمستقبليّ. لا تُنسى الجراح لكنّ أطفال سورية وأطفال غزّة وأطفال السودان لهم حقٌّ مقدَّمٌ في الحياة والمستقبل.
أحمد الشرع قيادة متميّزة. استطاع ما لم يستطِعه غيره حتّى الآن. الأمل بالمستقبل كبير، ومع شباب سورية وشيوخها، ولا بأس إذا كانوا سنّةً وأكثريّة، أليس كذلك؟!
لمتابعة الكاتب على X:
