في الأزقّة القديمة التي تنام بين مطرانية الموارنة وباب توما والجامع الأموي بدمشق، كان الهواء بارداً مشبعاً برائحة الرطوبة. ومع ذلك، بدت المدينة وكأنها تتنفّس للمرة الأولى منذ أعوام. في ذلك اليوم بالذات، مشيت كرجلٍ لا يُؤمن بشيءٍ سوى العقل، وأحمل في داخلي شكوكاً كثيرةً ورغبةً واحدةً: أن أرى دمشق الجديدة لا من بوابة السياسة، بل من بوابة الإنسان.
كُنت ما كُنت لا أخفي قناعاتي، لكني أيضاً لم أكن عدواً للإيمان. كنت أرى في الأديان أثراً ثقافياً عميقاً يستحق الفهم، لا الهدم. وربّما لهذا السبب وجدت نفسي في صباح ذلك اليوم أسير نحو مطرانية دمشق المارونية، ومن ثم إلى الجامع الأموي بعدما دعاني أحد أصدقائي المسيحيين إلى الزيارة التي شارك فيها مسلمون أيضاً.
كان ذلك في السابع والعشرين من كانون الأوّل عام ٢٠٢٤، بعد أسابيع قليلة من الحدث الذي شقّ تاريخ سوريا إلى نصفين: سقوط نظام بشار الأسد، ووصول أحمد الشرع إلى الحكم الانتقالي. كانت دمشق، في ذلك الشتاء الرمادي، مدينةً تمشي على أطراف الحلم؛ نصفها يصدّق أنّ الكابوس انتهى، ونصفها الآخر لا يجرؤ على الفرح الكامل.
انطلقنا من بيروت فجر السابع والعشرين من كانون الأوّل عام ٢٠٢٤، قبل أن تستيقظ المدينة على ضجيجها الذي لا ينام. كنّا مجموعة صغيرة، أقلّ من مئة شخص، يتقدّمنا الوزير السابق حسن منيمنة والنائب السابق الدكتور فارس سعيد، ومعنا وجوه من الصحافة والفكر والسياسة. لم تكن الرحلة ترفاً سياحيًاً ولا حنيناً ثقافيّاً، بل عبوراً إلى مدينةٍ خرجت تواً من زمنٍ طويلٍ من القهر الأقلويّ والفئويّ والبعثي.
كنت، كيساريٍّ لا يؤمن إلا بالإنسان والعقل، ذاهبًا لأرى كيف تبدو دمشق بعد أن سقط طغيان آل الأسد ووصل أحمد الشرع إلى الحكم الانتقالي. لم أتوقّع أن أُصلّي هناك. كنت ذاهبًا لأرى ما بعد الديكتاتور، لا لأبحث عن إيمانٍ ما.
حين بدأت الصلاة، وجدت نفسي أتقدّم وأتبعهم. لا لأؤمن، بل لأختبر الفعل ذاته: الركوع، السجود، السكون
طريق بين مدينتين … ودمشق الخارجة من الخوف
على الطريق الممتد بين الحدود اللبنانية وبين الحدود السورية، كان الصباح رماديًّا، يلفّ الجبال بوشاحٍ من ضبابٍ بارد. داخل الحافلة، كان الصمت أبلغ من الكلمات. نحن اللبنانيين أبناء الجدل الدائم، نسكت هذه المرّة كمن يسير نحو تجربة لا تشبه شيئاً من قبل.
كلّ كيلومتر نحو الشرق كان يقلّص المسافة الجغرافية ويضاعف المسافة المعنوية. فبيروت التي خرجنا منها، بحريتها المفرطة وضجيجها الدائم، بدت بعيدة عن دمشق التي ما زالت تتلمّس أنفاسها الأولى بعد القهر.
دخلنا عاصمة الأمويين قبيل الظهر. كانت دمشق تفتح عينيها على زمنٍ جديد، متعبٍ ومربكٍ في آنٍ واحد. الناس يمشون بحذرٍ كما لو أنّ الحرية سيفٌ ذو حدّين. لم تكن دمشق محرّرة بالكامل، بل كانت متحرّرة جزئيًّا من الخوف، تحاول التعرّف على نفسها مجدداً.
في الوجوه بقايا خوفٍ قديمٍ ووميضُ فضولٍ جديد. في الهواء رائحةُ المدن التي جرّبت الطغيان ثم استيقظت فجأة، لا تعرف إن كانت حُرّة فعلاً أم فقط بلا ديكتاتور.
الصلاة تمرين على الحريّة..
أوّل محطّاتنا كانت مطرانية دمشق المارونية. مبنى قديمٌ متين، تملؤه ملامح الصبر أكثر من مظاهر الزخرفة. من وجوه رهبانه وقسيسيه تنبعث أسئلة تخاف على المستقبل والمصير. هذه الأسئلة كانت تشكلت زمن آل الأسد. في الداخل كانت رائحة البخور تمتزج ببرودةٍ قاسيةٍ، والتراتيل بالعربية والسريانية تتردّد في كل قاعات الكنيسة وأنى وليّت وجهك. جلستُ في الصف الأخير، أراقب الناس وهم يصلّون لا خوفًا بل استعادةً لمعنى الغياب الطويل.
جلس كل المسيحيين في الكنيسة وصلوا. صليّت معهم. وتناولت القربان. في صلاتهم رأيت في وجوههم ما يشبه الخلاص الإنساني لا الديني. كان في أصواتهم شيء من الثورة، كأنّ الصلاة صارت تمرينًا على الحرية بعد أن كانت فعل إيمان. في تلك اللحظة، فهمت أن الإيمان، حين يتحرّر من السياسة، يتحوّل إلى فعل مقاومةٍ لا خضوع.
عادت الجوقة لترتل بالآرامية، والأصوات ترتفع مثل موجٍ بطيءٍ يلامس سقف الكنيسة المقوّس. لم أفهم الكلمات، لكنني شعرت بصدقها. في تلك اللحظة، بدا لي أن الصلاة ليست فعلًا لاهوتياً بقدر ما هي لغةٌ بشريةٌ قديمةٌ تُعبّر عن العجز ذاته: حاجة الإنسان لأن يسمعه أحد، أيًّا كان هذا “الأحد”.
حين وصلتُ إلى بيروت تلك الليلة، كتبت في دفتري: اليوم صلّيت في دمشق، لا لأنّي مؤمن، بل لأنّ الحرية هناك تحتاج إلى صلاة لكي تبقى
المطرانية تقف في قلب حيٍّ عتيقٍ صامتٍ كالصلاة نفسها. الجدران الحجرية تلمع بتوقيع الزمن، والبوّابة الحديدية تعلوها شارة الصليب كأنّها توقيعٌ على باب التاريخ. فيها أيقوناتٌ تراقب بعيونٍ حزينة الداخلين كما لو كانت تحفظ أسرارهم. جلست أراقب المؤمنين القادمين إلى المطرانية، لا من باب الاحترام الطقسي، بل لأني أردت أن أراقب المشهد من دون أن أكون جزءاً منه. تأملت وجوه المصلّين: امرأةٌ تُصلّب على وجهها وترطن بكلمات غير مسموعة، ورجلٌ يغلق عينيه على توتّر، وشابٌ يضمّ يديه بتردّدٍ بين الإيمان والخوف. هكذا رأيت الإنسان، بكلّ قلقه وسكينته.
بعد القدّاس خرجت إلى الشارع، فاستقبلتني شمس دمشق الخجولة. المآذن تصدح بالتكبيرات. أجراس الكنائس تقرع حيث نحن وفي الأفق. وصوت الباعة في الحارات “يعيد للمدينة حياتها العادية” على ما قال أحدهم، كأنّ الناس قرّروا أن يبدؤوا من الصفر، ومن دون انتظار المعجزات.
من الكنيسة إلى الجامع الأموي
من المطرانية خرجنا إلى الشارع القديم، والشمس تمسح وجوه البيوت، ثم سرنا نحو الجامع الأموي الذي بدا من بعيدٍ كقلعةٍ من رخام أبيض وتحلق فوقه أسراب الحمام. في الانتقالٍ لم أشعر بأي تناقض، بل باستمرار طبيعي في مدينةٍ عرفت منذ قرونٍ كيف تتجاور الأديان وتتداخل جماعاتها في عيش مشترك.
مررنا بالأسواق القديمة التي استعادت نصف حياتها: باعةٌ يعرضون صور دمشق القديمة، أطفالٌ يركضون بين ركام الذاكرة، ورجالٌ يهمسون بأحاديث السياسة الجديدة وكأنهم يتدرّبون على الكلام الحرّ.
عند مدخل الجامع الأموي استقبلنا عناصر الأمن المسلحين بكامل عتادهم، لكن استقبالهم كان فيه من الكياسة ما يُشعرك بتناقض بين السلاح وبين لطف المعاملة. ثم خلعنا أحذيتنا، ودخلنا إلى ساحةٍ بيضاء تتلألأ بالرخام. كانت رائحة السجاد ممزوجةً بغبار التاريخ، أو هكذا هُيّىءَ لي. رفعت رأسي، وتأمّلت السقوف التي شهدت تعاقب الملوك والأنبياء والغزاة.
حين بدأت الصلاة، وجدت نفسي أتقدّم وأتبعهم. لا لأؤمن، بل لأختبر الفعل ذاته: الركوع، السجود، السكون. حين لامس جبيني السجادة، لم أشعر بالخضوع بل بالصفاء، لحظة نادرة يتوقّف فيها الفكر عن الجدال، ويترك المكان لتجربةٍ جسديةٍ خالصة.
لم أصلِّ وإن كنت أُقلدهم قياماً وركوعاً وسجوداً. أحسست أن جسدي يبحث عن المعنى. كان عقلي يسأل عن الإنسان الذي يصنع رموزه كي يذكّر نفسه أنه ما زال قادرًا على الأمل. في ذلك السجود، وجدت ما يشبه طمأنينة العقل حين يعترف بأنّ للعاطفة مكانها، وإن كان موقّتاً.
جلستُ عند عمودٍ قديمٍ أراقب الضوء يتسلّل إلى الرخام، وتذكّرت بيروت. هناك الحرية فوضى تُتداول يوميًا في المقاهي والجرائد. هنا الحرية تُلفَظ همساً
خرجتُ إلى ساحة الجامع، والحمام يحلّق في حلقاتٍ بيضاء، وصوت الآذان يمتزج بأصوات الأطفال. رأيت دمشق وهي تحاول أن تتذكّر نفسها بعد أن أنساها الاستبداد كيف تكون مدينة.
جلستُ عند عمودٍ قديمٍ أراقب الضوء يتسلّل إلى الرخام، وتذكّرت بيروت. هناك الحرية فوضى تُتداول يوميًا في المقاهي والجرائد. هنا الحرية تُلفَظ همساً، ككلمةٍ مقدّسة يخاف الناس أن يُسيئوا نطقها.
شهيقٌ بعد اختناق
في بيروت نستهلك الحرية بلا خوف، في دمشق نتذوّقها بخوفٍ من أن تُسلب منّا ثانية.
على طريق العودة مع الغروب، غادرنا دمشق. المطر ناعمٌ فوق الزجاج، والحافلة تهتزّ بصمتٍ على المنعطفات. كان فارس سعيد يتحدّث عن ضرورة أن تكون سوريا الجديدة دولةً لكلّ أبنائها، وقال جملةً بقيت ترنّ في رأسي طوال الطريق: “الحرية لا تُورّث، تُؤخذ”. في تلك اللحظة أدركتُ أن الحرية مثل الصلاة ليساري: ليست عقيدة بل تمرين. تمرينٌ على أن تختار ما تقول وما تفعل، من دون أن يُملي عليك أحد معنى وجودك.
إقرأ أيضاً: الشّرع بعد عام.. هدنة الدّاخل وحسابات الخارج
حين بدت أضواء بيروت من بعيد، شعرت أنّني أعود من زمنٍ آخر. دمشق، الخارجة من القهر، كانت تصلي لتتعلّم كيف تتنفس. وبيروت، المتخمة بالحرية، كانت بحاجةٍ إلى أن تصمت قليلاً لتتذكّر لماذا تحيا.
حين وصلتُ إلى بيروت تلك الليلة، كتبت في دفتري: اليوم صلّيت في دمشق، لا لأنّي مؤمن، بل لأنّ الحرية هناك تحتاج إلى صلاة لكي تبقى. كانت تلك الجملة كلّ ما استطعت أن أستخلصه من اليوم الطويل بين بيروت ودمشق: أن الإيمان والحرية وجهان لشيءٍ واحد، كلاهما حاجة إنسانية للبقاء في وجه القهر. وأن الصلاة، حتى في فم ملحدٍ، يمكن أن تكون فعل تضامنٍ مع من يحاول أن يتنفّس بعد اختناقٍ طويل.
لمتابعة الكاتب على X:
