سنة على سقوط الأسد: إنقشاع الوهم

مدة القراءة 5 د

حملت الذكرى السنوية الأولى لسقوط نظام بشار الأسد، تسريب مقاطع فيديو له أثناء جولة في الغوطة الشرقية، برفقة مستشارته الإعلامية لونا الشبل، التي قتلها النظام، كما بات يُعتقد، قبل نحو ٥ شهور من السقوط.

 

تسخر الشبل، في واحد من المقاطع من قوة ميليشيا “الحزب” ودورها القتالي في سوريا، بالقول “الحزب لَبَد… لم نعد نسمع صوته”، من دون أن يصدر عن الأسد أي إعتراض على كلامها. ما بدا أنه لحظة جحود، هو في الواقع إقرار متأخر بحقيقة العلاقة بين الحزب ونظام الأسد، بعد طول تستر بعباءة “الممانعة”. الأسد لم يرَ في الحزب يومًا حليفًا أو شريكًا، بل أداة مناسبة، لوظيفة محددة.

هذا تماماً ما فجر الغضب في أوساط مناصري الحزب. فإلى الإهانة بذاتها، تُضاف صدمة “المرآة”، التي حملتها عبارات ونبرة لونا الشبل، وفرضت على جمهور الحزب أن يرى صورته كما يراها الآخرون، أي مجرد أداة توهمت الشراكة، ومقاتل بالوكالة ظنّ أنه يخطّ سِفر التاريخ بدمائه، فإذا به لا يعدو كونه رقمًا في سجل حسابات الآخرين.

تشير التقديرات المحافظة للبنك الدولي والمؤسسات الدولية إلى أن الأزمة السورية كلفت لبنان حوالي 18 مليار دولار بين 2011 و2020

ضعف مكانة الحزب؟

لو دققنا أكثر سيظهر أن إيران وروسيا، لم تشذّا عن الأسد في النظر الى “الحزب” كأداة. فهاتان الركيزتان اللتان مكنتا النظام السوري الأجوف من الصمود لثلاثة عشر عامًا عبر الإمعان في القتل والإبادة، أوكلتا الجهد القتالي الميداني بالكامل إلى الأدوات والميليشيات التي كان “الحزب” طليعتها.

فقد اقتصر دور روسيا على الإسناد الجوي والسياسي، في حين حدت إيران من تدخلها المباشر، بالاتكال على “الحزب” وميليشيات أخرى. وعندما عجزت الأداة عن التدخل، بفعل الاستنزاف الناجم عن “معركة إسناد غزة”، جمدت طهران مجهودها الحربي ولم تغامر بالتدخل المباشر لمنع لحظة الانهيار.

لعل ما يقلق جمهور “الحزب” أكثر، أن يكون ما كشفته مقاطع الفيديوعن ضعف مكانة الحزب في عيون المستفيدين منه، مؤشراً دقيقاً لما قد تقوم به إيران إذا ما تبدلت حساباتها ووصلت لدرجة التخلي عن ميليشيا لم يبقَ منها الكثير. فسلوك الأسد ليس استثناءً في منظومة “الممانعة”، بل ربما المثال الأوضح والأكثر نقاءً، للمشغل الذي لا يعترف بالأداة كشريك بل يشغّلها كما ينبغي لها أن تُشغل.

ربما هذا هو في العمق ما يعنيه الإيرانيون بحديثهم الدائم عن “تضحيات المقاومة”، وإن كانوا، بخلاف وقاحة لونا الشبل، أذكى في إدارة الخطاب الدعائي.

قد يُحاكم الأسد يومًا ما في محكمة دولية، وقد يفلت من العقاب. لكن المحاكمة الأهم تجري الآن، ليس في قاعات المحاكم، بل في صميم الوعي الجمعي للقاعدة الشيعية اللبنانية، التي تتساءل بصمت موجع، ماذا جنينا من كل هذا العبء؟

بين عامي 2012 و2024، ترتبت على لبنان أثمان فادحة لقرار لم يكن وليد إرادته الوطنية. دفع “الحزب” مئات القتلى من مقاتليه في معارك القصير والقلمون وحلب والغوطة، ودخل لبنان في عزلة اقتصادية وسياسية، نتيجة القطيعة في العلاقة الخليجية اللبنانية.

اقتصر دور روسيا على الإسناد الجوي والسياسي، في حين حدت إيران من تدخلها المباشر، بالاتكال على “الحزب” وميليشيات أخرى

تشير التقديرات المحافظة للبنك الدولي والمؤسسات الدولية إلى أن الأزمة السورية كلفت لبنان حوالي 18 مليار دولار بين 2011 و2020، شاملة خسائر الناتج المحلي الإجمالي والتكاليف الحكومية الإضافية وتدهور البنية التحتية، الا أن هذا الرقم لا يروي القصة الكاملة. فعند تقييم دخول حزب الله المباشر في الحرب السورية كعامل مركّب ثابت (compounding factor)  في كل الأزمات التي ضربت لبنان منذ 2011، بما في ذلك الانهيار الاقتصادي الكبير (2019-2021) ثم انفجار مرفأ بيروت (2020) وصولاً إلى حرب 2024 مع إسرائيل، تصبح الصورة أكثر قتامة.

خسارة السردية

الأزمة السورية لم تكن حدثاً خارجياً معزولاً، بل محرّكاً أساسياً زعزع الاستقرار السياسي وأثقل الموازنة العامة ودمّر الثقة الاقتصادية وسلاسل الإمداد ومهّد الطريق للانهيار الشامل. بحساب حصة الأزمة السورية من كل هذه الكوارث المتتالية، بما فيها هجرة مليون لبناني (معظمهم شباب ومتعلمون)، وانهيار الاستثمارات الأجنبية، وتدمير النسيج الاجتماعي، يصل التقدير غير المحافظ إلى 70-75 مليار دولار. يعني هذا أن دور “الحزب” في سوريا كلّف لبنان أكثر من ناتجه القومي السنوي بأكمله، وأوقع البلد في أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث.

إقرأ أيضاً: نجم العالم بلا منازع

لعل الخسارة الأكبر بالنسبة للجمهور الغاضب اليوم من تسريبات بشار الأسد، أن “الحزب” خسر سرديته، مع تآكل صورة “المقاومة” وتحوله الى ميليشيا مذهبية تقاتل في حروب الآخرين. والأخطر، بعد هزيمته المدوية عام 2024، هو اهتزاز ثقة جزء من قاعدته الشعبية، التي باتت تتجرأ على طرح السؤال المحظور: لمصلحة من كل هذه التضحيات؟

مسارعة مناصري الحزب إلى السخرية من “جحود” الأسد، هو مجرد غطاء للهرب من مواجهة السؤال الأصعب: لماذا توقعنا الوفاء من نظام لم يكن يومًا وفيًا لشعبه؟ ولماذا صدّقنا خرافة الشراكة ونحن نعلم، في أعماق وعينا، أننا مجرد وقود للاستخدام في معارك واستراتيجيات يقررها آخرون؟

المحاكمة الحقيقية، ليست محاكمة الأسد وأخلاقه، بل محاكمة الوهم الذي شيّد عليه “الحزب” شرعيته الإقليمية، التي إنهارت أسرع من إنهيار نظام الأسد نفسه.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@NadimKoteich

مواضيع ذات صلة

سوريا: سنة أولى حرية

عام انطوى على دولة وشعب وأمة استعادوا فيه الحياة، وعلى طاغية فارٍ يعيش بين الثلوج ولا يتكلم بل يكتفي فقط بالنحيب. عام على عودة دمشق…

سورية الشّرع: صعوبات استقبال الجديد

من سوء حظّ بشّار الأسد في منفاه أنّهم عندما كانوا ينشرون حديثاً طويلاً له في سيّارته مع مساعدته السابقة لونا الشبل فيه الكثير ممّا يدلّ…

الشّرع في عامه الأوّل: 80% من السّوريّين يثقون به

يريد السوريّون الكثير والكثير في الاقتصاد والأمن والديمقراطيّة، لكنّهم يثقون بشكل كبير وغير مسبوق برئيسهم أحمد الشرع لدرجة ستجعل كثراً من قادة العالم يحسدونه على…

سوريا الجديدة: عام على هزيمة إيران

لم تخسر إيران سوريا فجأة مع دخول قوّات هيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمّد الجولاني إلى مدينة حلب مطلع كانون الأوّل 2024، ولا مع الانهيار…