أكراد سوريا: مفتاح الدولة أم عقدتها الكبرى؟

مدة القراءة 6 د

لم تعد المسألة الكردية ملفًا جانبيًا في صراع متعدد الجبهات؛ إنها واحدة من أكثر العقد البنيوية التي سيتوقف عليها شكل الدولة السورية الجديدة وموقعها في الإقليم.

 

قبل وصول الأنظمة القومية إلى السلطة في دمشق، كان أكراد سوريا، على خلاف نظرائهم في تركيا وإيران والعراق، جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني السوري. برز بينهم إبراهيم هنانو، أحد أبرز رموز المقاومة ضد الانتداب الفرنسي، كما وصل ثلاثة من الشخصيات من أصول كردية كلية أو جزئية إلى رئاسة الجمهورية بين عامَي 1949 و1954: حسني الزعيم، فوزي سلو، وأديب الشيشكلي.

غير أن الشرخ بدأ يتسع مع معارضة الأكراد إعلان الوحدة مع مصر عام 1958 وتشكيل الجمهورية العربية المتحدة، مطالِبين بالاعتراف بهويتهم القومية. وبعد انهيار دولة الوحدة، بقيت مخاوفهم قائمة، خصوصًا بعدما حافظت الدولة السورية الجديدة على اسم “الجمهورية العربية السورية”، ثم أجرت تعدادًا سكانيًا في محافظة الحسكة جرّد 120 ألف كردي من الجنسية بحجة دخولهم البلاد من العراق وتركيا.

لم تعد المسألة الكردية ملفًا جانبيًا في صراع متعدد الجبهات؛ إنها واحدة من أكثر العقد البنيوية التي سيتوقف عليها شكل الدولة السورية الجديدة وموقعها في الإقليم

انتفاضة الأكراد وحسابات دمشق وأنقرة وواشنطن

جاء انقلاب عام 1963 الذي أرسى حكم البعث ليعمّق المعضلة الكردية، لا سيما مع اكتشاف النفط في شرق الفرات. وزاد قرب الموارد الاستراتيجية من التجمّعات الكردية حساسية البعثيين من احتمالات “تمرد كردي” في الهلال الشرقي، فشاركوا في دعم الجيش العراقي لسحق التمرد في كردستان العراق ومنع امتداده إلى الجزيرة السورية. ثم شهد عام 1974 إنشاء “الحزام العربي” بطول 375 كلم على حدود سوريا الشمالية والشرقية، حيث جرى تهجير نحو 140 ألف كردي وتوطين أبناء قبائل عربية مكانهم تحت غطاء قوانين الإصلاح الزراعي.

لكن مع حرب الخليج الأولى عام 1991 وظهور إقليم كردستان العراق، تلقّى القوميون الأكراد في سوريا وتركيا دفعة قوية لإحياء طموحاتهم القومية. وتجدّدت تلك الروح مع أحداث القامشلي عام 2004 التي اندلعت عقب مباراة لكرة القدم، وأدت إلى حملة أمنية قاسية أسست لظهور النواة الأولى لوحدات حماية الشعب بشكل سري.

ثم جاءت انتفاضة 2011 لتفتح أمام الأكراد لحظة تاريخية نادرة مكّنتهم من بناء إدارة ذاتية تطورت إلى كيان أمر واقع في شرق الفرات. ومع تعقّد الجغرافيا السورية وتقاسم النفوذ بين واشنطن وموسكو وأنقرة ودمشق، تحوّل الوجود الكردي إلى نقطة توازن استراتيجية:

  • تركيا ترى فيه امتدادًا لحزب العمال الكردستاني
  • الولايات المتحدة تعتبره شريكًا أساسيًا في محاربة الإرهاب
  • دمشق تتعامل معه كـ”ظرف مؤقت” يجب إعادة إدماجه في إطار الدولة المركزية.

بين هذه المقاربات المتعارضة، بات الأكراد يمسكون بخيوط معادلة قد تعيد رسم هوية الدولة السورية، أو تُكرّس واقع الانقسام لسنوات طويلة.

إذا كان الدور الأميركي في المسألة الكردية يحظى بتسليط الضوء، فإن الدور الإسرائيلي ليس بعيدًا عن المشهد؛ فتل أبيب لم تُخفِ رغبتها في تفتيت سوريا إلى كيانات قومية وطائفية متجاورة، بما يجعل الأقليات، الدروز والعلويين والأكراد والسنة، في حالة توازن هش، تكون الدولة اليهودية فيه “الأقلية المتميزة” وسط فسيفساء متناحرة.

قبل وصول الأنظمة القومية إلى السلطة في دمشق، كان أكراد سوريا، على خلاف نظرائهم في تركيا وإيران والعراق، جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني السوري

كيف يُعاد رسم دور الأكراد؟

رغم قوة الإدارة الذاتية واتساع نفوذ “قسد”، كشفت التطورات الإقليمية عن قيود كبرى كبحت الطموحات الانفصالية. فالمخاوف التركية من تمدد الجماعات الكردية المرتبطة بحزب العمال دفعت أنقرة إلى شن ثلاث عمليات عسكرية أدت إلى خسارة عفرين وشريط استراتيجي بطول 115 كلم بين تل أبيض ورأس العين.

مع تغيّر السلطة في دمشق وسقوط نظام الأسد، ووصول قيادة جديدة ذات توجهات مغايرة وتحظى بدعم واضح من أنقرة، وتُفتح لها أبواب البيت الأبيض، بدأ المسار العكسي للطموحات الكردية. فالتبدل الإقليمي لا يصب في صالح الإدارة الذاتية، ويفرض عليها إعادة تقييم خياراتها: إما الاندماج تحت السلطة الجديدة في دمشق، وإما المواجهة التي قد تكون كلفتها باهظة على الطرفين.

تزامن هذا التحول مع تطور كردي لافت: الدعوة التاريخية التي أطلقها زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من سجنه مطالبًا حزبه بإلقاء السلاح. وهو الحزب الذي شكّل العمود الفقري في تسليح وتدريب وحدات حماية الشعب.

الولايات المتحدة، في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي استقبل الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في البيت الأبيض، لم تعد تطرح “الحكم الذاتي” كأولوية، بل تميل إلى تذويب مشروع الإدارة الذاتية ضمن الدولة السورية الموحدة بعد تراجع النفوذين الروسي والإيراني. وتعمل واشنطن على دمج “قسد” ضمن هيكل “الجيش السوري الجديد”، فيما ترتبط ترتيبات الوجود الكردي أيضًا برؤية أميركية أوسع تتعلق بهندسة سلام سوري–إسرائيلي مرتقب.

تقف سوريا أمام امتحان وجودي: إما بناء عقد وطني جديد ينهي عقود الإقصاء، وإما البقاء رهينة خرائط النفوذ التي رسمتها الحرب

أعلن الشرع مرارًا إن “الأكراد جزء من النسيج السوري” وأن “قواتهم” (قسد) ستُدمج ضمن جيش الدولة الرسمي. وكرر أن أي حلول سياسية مع الأكراد “ممكنة” لكن ضمن “سوريا موحّدة” وتحت سقف الدولة، مبدئيًا رفضه لـ”فيدرالية” أو “كانتونات مستقلة” في سوريا، معتبرًا أن هذا يتعارض مع “وحدة الأرض والشعب السوري” و”خط أحمر”.

أي دولة سورية جديدة يجري صياغتها؟

في المحصلة، لن يُحسم مستقبل سوريا في معركة واحدة، ولا في تسوية ثنائية، بل عند تقاطعات مصالح القوى الكبرى. ويبقى سؤال اللامركزية مفتاحًا مركزيًا: هل تستطيع الدولة السورية المقبلة الانتقال من نموذجها الصلد القائم على مركزية الهوية والسلطة إلى نموذج مرن يضمن شراكة عادلة لكل المكونات، وفي طليعتها الأكراد؟ وهل يمكن تحقيق ذلك من دون إثارة هواجس الجوار الإقليمي، وخاصة تركيا؟

إقرأ أيضاً: حين أعلنت الرّياض “نهائيّة” سقوط الأسد

المؤكد أن أي صيغة حكم تستبعد حلًا مقبولًا للمسألة الكردية ستبقى هندسة سياسية معلَّقة غير قابلة للحياة. فالأكراد اليوم ليسوا مجرد جماعة تطالب بحقوق ثقافية، بل قوة منظمة تمتلك مؤسسات وموارد وتحالفات وقدرات عسكرية، وتمثل محورًا لا يمكن تجاوزه في إعادة بناء الدولة السورية. وإغفالهم يعني إبقاء جزءًا مهمًا من البلاد خارج سلطة المركز، وتعميق التشقق الداخلي، وفتح الباب لصراعات يمكن أن تمتد لعقود.

بين هاجس التقسيم وطموحات الاعتراف، وبين مركزية الدولة والحفاظ على الوحدة وتطلعات المكونات، تقف سوريا أمام امتحان وجودي: إما بناء عقد وطني جديد ينهي عقود الإقصاء، وإما البقاء رهينة خرائط النفوذ التي رسمتها الحرب. وفي هذا الامتحان، تبدو التسوية الكردية المفتاح الأكثر حساسية، وربما الأكثر قدرة، على فتح باب الدولة السورية الجديدة… أو إبقاء البلاد في دائرة المجهول.

مواضيع ذات صلة

سوريا: سنة أولى حرية

عام انطوى على دولة وشعب وأمة استعادوا فيه الحياة، وعلى طاغية فارٍ يعيش بين الثلوج ولا يتكلم بل يكتفي فقط بالنحيب. عام على عودة دمشق…

سورية الشّرع: صعوبات استقبال الجديد

من سوء حظّ بشّار الأسد في منفاه أنّهم عندما كانوا ينشرون حديثاً طويلاً له في سيّارته مع مساعدته السابقة لونا الشبل فيه الكثير ممّا يدلّ…

الشّرع في عامه الأوّل: 80% من السّوريّين يثقون به

يريد السوريّون الكثير والكثير في الاقتصاد والأمن والديمقراطيّة، لكنّهم يثقون بشكل كبير وغير مسبوق برئيسهم أحمد الشرع لدرجة ستجعل كثراً من قادة العالم يحسدونه على…

سوريا الجديدة: عام على هزيمة إيران

لم تخسر إيران سوريا فجأة مع دخول قوّات هيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمّد الجولاني إلى مدينة حلب مطلع كانون الأوّل 2024، ولا مع الانهيار…