حين أعلنت الرّياض “نهائيّة” سقوط الأسد

مدة القراءة 5 د

قبل أيلول الماضي كشف والد الرئيس السوريّ أحمد الشرع في مقابلة بعض أسرار عمليّة “ردع العدوان” التي أطلقتها “هيئة تحرير الشام” في 27 تشرين الثاني 2024. قال إنّ ابنه، المُكنّى آنذاك بأبي محمد الجولانيّ، كان لمّح له بخطط تُعدُّ لهجوم على حلب. استفظع الوالد ذلك الكشف الذي كان حينها خارج سياقات الممكن والمتاح. لا شيء في الفترة السابقة على العمليّة، حتّى في بدايتها، كان يوحي بأنّ الهدف يتجاوز حلب بالحدّ الأقصى وريفها بالحدّ الأدنى. لكنّ تطوّراً مصدره الرياض أوحى للعالم أجمع بأنّ شيئاً كبيراً غير عاديّ يحدث في سوريا.

 

قبل العمليّة بأيّام أسرَّ لي مصدر منخرط في ملفّ سوريا أنّه نُصِح بالتوجّه إلى الرياض لأنّ شيئاً ما يدبَّر هناك قد يثمر “طائفاً سوريّاً” تيمّناً بالاتّفاق الذي أُبرم من أجل لبنان عام 1989. أخبرني لاحقاً أنّ تطوّرات ميدان “ردع العدوان” جبّت ما لم يتجاوز حدود الشائعات. وحين التقيت ومجموعة من الصحافيين برئيس وزراء العراق محمد شيّاع السوداني في كانون الثاني الماضي في لندن، كشف عن غموض وارتجال وفوضى أصابت بغداد وكلّ العواصم جرّاء “زلزال” انطلق من إدلب وكان يقترب صوب دمشق.

المملكة تلتقط اللّحظة

قال السوداني إنّ الرئيس السابق بشّار الأسد أرسل إلى بغداد لأوّل مرّة موافقته على مبادرة عراقيّة للحلّ كان رفضها. نذكر أيضا أنّ وزير خارجيّة تركيا هاكان فيدان انطلق صوب الدوحة لملاقاة بعض نظرائه لضبط ما كُشف لاحقاً أنّه لم يكن تدبيراً تركيّاً. كانت أنقرة تعوّل على عمليّة حلب من أجل ممارسة ضغوط على دمشق للقبول بتوافقات كان الأسد يرفضها. وتعترف المصادر التركيّة هذه الأيّام أنّ قرار العبور من حلب إلى العاصمة كان خارج حسابات تركيا واضطرّت إلى مجاراة أمره الواقع. تؤكّد مصادر سوريّة هذه الحقيقة وأنّ الجولاني وحده كان يقف وراء الاندفاع إلى دمشق.

أعلن الرئيس دونالد ترامب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا ملاقياً الشرع هناك مكتشفاً بتودّد أنّه شابّ وقويّ ووسيم

فجر 8 كانون الأوّل 2024، لم يعرف أهل دمشق ماذا يجري في مدينتهم. استنتجوا غياب قوّات السلطة ودخول وحدات ميليشياويّة من محافظة درعا كان يقودها أحمد العودة إلى قلب العاصمة. وإن كان من منطق الفوضى أن تدخل قوّات العودة الأقرب حينها من العاصمة، كان لافتاً أنّه غادر وقوّاته فوراً حين أتاه هاتف طلب ذلك. لم تكن قوّات “الهيئة” قد دخلت المدينة، ولم تكن عواصم الدنيا قد استفاقت على الحدث السوريّ.

يخبرني مصدر سعوديّ أنّ هاتف وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمّان لم يتوقّف ليلة الحدث عن تلقّي اتّصالات من العواصم القريبة والبعيدة لاستجلاء ما يجري في سوريا. توجّست بعض تلك الاتّصالات من عبث مجهول. كان على المملكة أن تخرج بما أسّس لاحقاً لجعل ذلك “العبث” تحوّلاً دوليّاً بامتياز.

فجر ذلك اليوم، وقبل أن يدخل الجولاني إلى دمشق، أصدرت وزارة الخارجيّة السعوديّة بيانها الفجريّ الشهير. نُحتت سطور البيان لتصل معانيه إلى السوريّين طبعاً، وإلى العواصم المعنيّة في المنطقة والعالم أيضاً. حدّد النصّ عناوين وقواعد وموقف المملكة من الحدث الكبير وفق التالي:

1- الدعم: “ارتياح للخطوات “الإيجابيّة” التي تمّ اتّخاذها وتأكيد وقوف المملكة إلى جانب الشعب السوريّ وخياراته”.

2- قواعد التحوّل: “الدعوة إلى تضافر الجهود للحفاظ على وحدة سوريا وتلاحم شعبها، وتأكيد دعم المملكة لكلّ ما من شأنه تحقيق أمن سوريا واستقرارها واستقلالها”.

الرياض

3- الخلاص: “دعوة المجتمع الدوليّ للوقوف إلى جانب الشعب السوريّ بعد معاناة راح ضحيّتها مئات الألوف من الأبرياء، والملايين من النازحين والمهجّرين، وعاثت خلالها في سوريا الميليشيات الأجنبيّة الدخيلة لفرض أجندات خارجيّة على الشعب السوريّ”.

4- الهدف: الإعلان أنّه “آن الأوان لينعم الشعب السوريّ الشقيق بالحياة الكريمة التي يستحقّها، وأن تعود سوريا لمكانتها وموقعها الطبيعيّ في العالمين العربيّ والإسلاميّ”.

من بوّابة الرياض جال الرئيس السوريّ في عواصم المنطقة. ومن خلال الممرّ السعوديّ دخل الشرع قصر الإليزيه في باريس

تعرف ما لا تعرفون

على الرغم من سرعة صدور بيان الرياض وطابعه الداهم، لم يكن متسرّعاً. تكفي إعادة قراءة المفردات لاستنتاج أنّها كانت ترصف طريقاً سلكه العالم أجمع. واكبت المملكة التحوّل السوريّ بصفته خياراً سعوديّاً استراتيجيّاً لا رجعة عنه. ساقت المملكة الموقف العربيّ الذي ظهر في بيان قمّة العقبة المصغّرة التي التأمت بعد أيّام من “سقوط دمشق”. 

وفق موقف السعوديّة اندفع دبلوماسيّو أوروبا صوب العاصمة السوريّة يعيدون فتح سفارات بلادهم فيها ويرفعون أعلامها واثقين بأنّ الرياض تعرف ما لا يعرفون.

وفق موقف المملكة عجّلت إدارة الرئيس جو بايدن بإرسال كبار موفدي وزارة الخارجيّة للقاء زعيم سوريا الجديد.  ووفق هذا الموقف أيضاً، أعلن الرئيس دونالد ترامب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا ملاقياً الشرع هناك مكتشفاً بتودّد أنّه شابّ وقويّ ووسيم.

من بوّابة الرياض جال الرئيس السوريّ في عواصم المنطقة. ومن خلال الممرّ السعوديّ دخل الشرع قصر الإليزيه في باريس، والكرملين في موسكو، وأطلّ على العالم من منبر المنظّمة الأمميّة في نيويورك.

أخرج دخول الشرع إلى دمشق كلّ السيرة الإيرانيّة التي استوطنت البلد منذ عقود. هو مفصل تاريخيّ أدركته المملكة بانتباه، وعملت على تمكينه وجعله نهائيّاً يتموضع العالم أجمع وفق أمره الواقع.

إقرأ أيضاً: سوريا الجديدة: بشارة حمزة وحكمة سمير

إن برز العامل الإسرائيليّ بفجور مهدّداً النظام السوريّ الجديد، واستهدف محيط القصر الرئاسيّ مستنداً إلى ما سمّاه وزير الخارجيّة الأميركيّ ماركو روبيو “سوء تفاهم”، فإنّ “الإنزال” الاقتصاديّ الذي نفّذته الرياض غداة ذلك الإثم أسمع واشنطن قبل تل أبيب أنّ سوريا باتت بالنسبة للمملكة خطّاً أحمر يمسّ السعوديّة ومصالحها ومن ثوابت أمنها الاستراتيجيّ في العالم أجمع.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

سوريا: سنة أولى حرية

عام انطوى على دولة وشعب وأمة استعادوا فيه الحياة، وعلى طاغية فارٍ يعيش بين الثلوج ولا يتكلم بل يكتفي فقط بالنحيب. عام على عودة دمشق…

سورية الشّرع: صعوبات استقبال الجديد

من سوء حظّ بشّار الأسد في منفاه أنّهم عندما كانوا ينشرون حديثاً طويلاً له في سيّارته مع مساعدته السابقة لونا الشبل فيه الكثير ممّا يدلّ…

الشّرع في عامه الأوّل: 80% من السّوريّين يثقون به

يريد السوريّون الكثير والكثير في الاقتصاد والأمن والديمقراطيّة، لكنّهم يثقون بشكل كبير وغير مسبوق برئيسهم أحمد الشرع لدرجة ستجعل كثراً من قادة العالم يحسدونه على…

سوريا الجديدة: عام على هزيمة إيران

لم تخسر إيران سوريا فجأة مع دخول قوّات هيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمّد الجولاني إلى مدينة حلب مطلع كانون الأوّل 2024، ولا مع الانهيار…