واشنطن: الحزب شريك في السلام وبناء الدولة

مدة القراءة 8 د

يصعب على المراقبين تحديد الموقف الواضح أحياناً من الأزمة اللبنانية. ولمزيد من الدقة، فإنّ الأزمة اللبنانية لها عنوانان لا عنوان واحد. العنوان الأول، هو الدولة وأداء أهلها في بنائها، والعنوان الثاني هو “الحزب” ونزع سلاحه وتحويله إلى حزب سياسي مشارك في بناء الدولة. ولعل أكثر من عبّر عن حقيقة المقاربة الدولية تجاه لبنان والمنطقة هو أولاً التقرير الصادر عن الاستراتيجية القومية للأمن للولايات المتحدة الأميركية في تشرين الثاني الماضي من هذا العام، والذي يشرح فيه مقاربة واشنطن السياسية في كل العالم، وضمنه بطبيعة الحال الشرق الأوسط، وثانيًا كلام الموفد الأميركي توماس باراك، الذي تناول المرحلة المقبلة من العراق إلى سوريا ولبنان وإسرائيل.

 

ما هو ملفت للنظر في التقرير الذي أصدره البيت الأبيض ووقّعه الرئيس دونالد ترامب، أنّ واشنطن بدأت تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط وحُكّامها وأنظمتها على أنهم شركاء لها في بناء السلام، وعلى أنّها منطقة طالما أسّست لنزاعات وقد حان الوقت لاستقرارها لكي تستطيع الولايات المتحدة الاهتمام بشؤون أخرى. أمّا لبنان، فهو غير موجود في خريطة البيت الأبيض عن الشرق الأوسط، بل هو استكمال لمواقع القرار فيه، وهو مصدر أزمة أمنية لا أكثر.

الشرق الأوسط: نقل الأعباء وبناء السلام

اختصاراً لما ورد في التقرير، عن مقاربة واشنطن للشرق الأوسط عام 2025، وفيها تأكيد التقرير على إعطاء السياسة الخارجية الأميركية الأولوية للشرق الأوسط أكثر من أي منطقة أخرى، على مدى نصف قرن على الأقل. فقد كان الشرق الأوسط لعقود المورِّد الأهم للطاقة في العالم، كما كان ساحة رئيسية للتنافس بين القوى العظمى، وكان يعجّ بالصراعات التي هدّدت بالامتداد إلى العالم الأوسع وحتى إلى شواطئ الولايات المتحدة.

المرحلة المقبلة ستستوجب إيجاد حلول مع الحزب وليس على حساب الحزب، لكي يكون شريكًا سياسيًا

اليوم، على الأقل اثنان من هذه العوامل لم يعودا قائمين. فإمدادات الطاقة أصبحت أكثر تنوّعاً، وأصبحت الولايات المتحدة مُصدّراً صافياً للطاقة من جديد. كما تراجع التنافس بين القوى العظمى ليصبح أقرب إلى “منافسة بين قوى كبرى”، تحتفظ فيها الولايات المتحدة بالموقع الأكثر تميّزاً، وهو ما عزّزته إعادة الرئيس ترامب إحياءَ تحالفاته في الخليج ومع الشركاء العرب الآخرين ومع إسرائيل.

لا تزال الصراعات تمثّل العنصر الأكثر إزعاجًا في الشرق الأوسط، لكن حجم المشكلة اليوم أقلّ مما توحي به العناوين. فإيران — وهي القوة الأكثر زعزعة للاستقرار في المنطقة — أصبحت أضعف بكثير بفعل العمليات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023، وبفعل عملية “مطرقة منتصف الليل” التي نفذها الرئيس ترامب في يونيو 2025، والتي ألحقت أضراراً كبيرة ببرنامج إيران النووي. أما الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني فما يزال معقّدًا، لكن بفضل وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن الذين تفاوض عليهم الرئيس ترامب، تم إحراز تقدم نحو سلام أكثر ديمومة. كما أن داعمي حماس الرئيسيين أصبحوا أضعف أو انسحبوا. أما سوريا فما تزال مصدر قلق محتمل، لكن بدعم أميركي وعربي وتركي قد تستقر وتستعيد مكانتها الطبيعية كدولة فاعلة وإيجابية في المنطقة.

مع قيام هذه الإدارة بإلغاء أو تخفيف السياسات المقيّدة للطاقة، وارتفاع وتيرة الإنتاج الأميركي، ستتراجع الأسباب التاريخية التي دفعت الولايات المتحدة للتركيز على الشرق الأوسط. وبدلًا من ذلك، سيصبح الإقليم بشكل متزايد مصدرًا ووجهة للاستثمار الدولي، في قطاعات تتجاوز النفط والغاز — بما في ذلك الطاقة النووية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات الدفاع. كما يمكنها العمل مع شركاء الشرق الأوسط لتعزيز مصالح اقتصادية أخرى، من تأمين سلاسل الإمداد إلى دعم فرص تطوير أسواق صديقة ومنفتحة في مناطق أخرى مثل أفريقيا.

نقلت وكالة “بلومبرغ” عن باراك قوله إن “إسرائيل لن تتمكّن من تحقيق أهدافها بمحاولة سحق الحزب عسكريًا”

يُظهر شركاء أميركا في الشرق الأوسط التزامًا متزايدًا بمكافحة التطرّف، وهو اتجاه يجب على السياسة الأميركية أن تستمر في دعمه، بحسب ما ورد في التقرير، لكن تحقيق ذلك يتطلب التخلّي عن التجربة الأميركية الخاطئة المتمثّلة في محاولة الضغط على هذه الدول للتخلّي عن تقاليدها وأشكال حكمها التاريخية، بل عليها تشجيع الإصلاح والإشادة به عندما يظهر بصورة طبيعية، لا فرضه من الخارج. فالعلاقة الناجحة مع الشرق الأوسط تتطلب تقبّل المنطقة وقادتها ودولها كما هي، والعمل معها في مجالات الاهتمام المشترك.

ستظل للولايات المتحدة مصالح أساسية تتمثّل في ضمان عدم وقوع إمدادات الطاقة في يد عدوّ مباشر، والحفاظ على بقاء مضيق هرمز مفتوحًا، وبقاء البحر الأحمر صالحًا للملاحة، ومنع المنطقة من أن تصبح حاضنة أو مصدّرًا للإرهاب ضد المصالح الأميركية، وضمان أمن إسرائيل. وفي هذا الإطار، لدى أميركا مصلحة واضحة في توسيع اتفاقيات أبراهام، لتشمل المزيد من الدول في المنطقة ودولًا أخرى في العالم الإسلامي.

لكن الأيام التي كان الشرق الأوسط يهيمن فيها على السياسة الخارجية الأميركية، سواء في التخطيط الطويل الأمد أو في العمل اليومي، قد ولّت، ليس لأن الشرق الأوسط لم يعد مهمًا، بل لأنه لم يعد ذلك المصدر الدائم للاضطراب والتهديد المحتمل بكارثة وشيكة كما كان سابقًا. فهو يظهر اليوم كمنطقة شراكة وصداقة واستثمار، وهو اتجاه ينبغي الترحيب به وتشجيعه، بحسب ما ورد في التقرير، الذي أكد أن قدرة الرئيس ترامب على توحيد العالم العربي في شرم الشيخ سعيًا للسلام والتطبيع ستسمح للولايات المتحدة بأن تعطي الأولوية لمصالحها الفعلية.

لا تزال الصراعات تمثّل العنصر الأكثر إزعاجًا في الشرق الأوسط، لكن حجم المشكلة اليوم أقلّ مما توحي به العناوين

مقاربة واشنطن للعلاقة بين إسرائيل ولبنان والحزب

لا بدّ في الكلام عن مقاربة واشنطن لحل السلام بين إسرائيل ولبنان، من التوقّف جديًّا عند كلام المبعوث الأميركي توم باراك في مقابلته الأخيرة مع سكاي نيوز عربية. فبعد كلامه عن اعتقاده بأن القصة لم تنتهِ بعد بين إسرائيل وإيران، قال باراك في الموضوع اللبناني إن “الجيش اللبناني لن ينزع سلاح شريحة كبيرة من الشعب اللبناني بالقوة والموت”، مضيفًا: “أعتقد أن سفيرنا الجديد في لبنان سيُحسن توجيه الحزب نحو حوار مدني”.

ثم نقلت وكالة “بلومبرغ” عن باراك قوله إن “إسرائيل لن تتمكّن من تحقيق أهدافها بمحاولة سحق الحزب عسكريًا”، معتبرًا أنه “آن الأوان لإجراء حوار بين لبنان وإسرائيل لإنهاء الوضع المتأزّم”.

هذا الكلام ليس بسيطًا. فهو بحسب معلومات “أساس”، يلامس جوهر النقاش حول الأزمة اللبنانية وكيفية معالجتها على نحو عميق، وليس الاكتفاء بمعالجات سطحية يمكن لها أن تدوم لأعوام ثم تعود وتظهر لأن بذورها لم تُعالج بالشكل الصحيح. وبناء على هذه القناعة التي تكوّنت عند فريق كبير في الإدارة الأميركية، والتي عبّر عنها بشكل كبير وصريح باراك في كلامه الأخير، وبناء على معطى تقييم البيت الأبيض لوظيفة لبنان وضرورة إنهاء “تصديره للأزمة الأمنية”، فإن المرحلة المقبلة ستستوجب إيجاد حلول مع الحزب وليس على حساب الحزب، لكي يكون شريكًا سياسيًا لا أمنيًا في لبنان، وشريكًا في بناء دولة المستقبل بعد إنهاء النزاع بين إسرائيل وإيران.

بحسب معلومات “أساس”، يلامس جوهر النقاش حول الأزمة اللبنانية وكيفية معالجتها على نحو عميق

ماذا يعني هذا الكلام على المستوى المحلي؟

بعد تكليف رئيس الجمهورية السفير سيمون كرم برئاسة الوفد المفاوض، بالتنسيق الكامل مع الرئيسين نبيه بري ونواف سلام، ثم إعلان الرئيس بري عبر موقع “أساس” أنه لم يكن على علم باسم السفير كرم، تلاه تجديد الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم موقف الحزب القائم على أن الأولوية تبقى لتطبيق إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار، تتكوّن خلاصة أولية ضمن هذه الدائرة التي غالبًا ما تعود وتستقر عند موقف الحزب، كما حصل سابقًا عند توجيه كتابه الأخير إلى الرؤساء الثلاثة.

إقرأ أيضاً: هل بدأ التّفاوض السّياسيّ؟

مفاد هذه الخلاصة أن الحزب يطالب، وفي الوقت نفسه يُطلب منه — وفق مقاربة الموفد الأميركي توماس باراك — أن يتحوّل إلى شريك على طاولة المفاوضات وفق صيغة مختلفة عن دوره الأمني السابق، وبتموضع مغاير لتموضع إيران السابق وفق موازين القوى الماضية، وذلك إذا كان هناك قرار جماعي بالسير نحو حل نهائي يقود إلى قيام الدولة وإنهاء دورة إنتاج الأزمات الأمنية الداخلية والخارجية. غير أن هذا المسار يستوجب ورشة عميقة في إعادة بناء الدولة، وهو ملف يفتح نقاشًا مستقلًا بحد ذاته.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@josephinedeeb

مواضيع ذات صلة

مفاوضات على نار حامية: هل تُنضج الاتفاق أم تحرق الجميع؟

انطلاق المفاوضات في جو الاحتقان السياسي المحلي والإقليمي لا يعد بالكثير طالما لم يتحقق النضج الكافي عند أطراف الصراع وذلك بحسب أهم مفاهيم حل النزاعات…

اغتيالات هزّت نظام الأسد (1/4): كيف قتل ماهر صهره؟

لم يكن الثامن من كانون الأوّل/ديسمبر 2024 تاريخ سقوط نظام بشار الأسد، بقدر ما كان لحظة إعلان الوفاة الرسمية لنظام ظلّ يتآكل منذ سنوات طويلة….

انتخابات أيّار: “فجوة” التّأجيل تتّسع!

ارتفعت حدّة السجال السياسيّ على خطّ معراب – عين التينة بعد الكباش الكلاميّ بين نائب حركة “أمل” علي حسن خليل ورئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” سمير…

ما بعد “اليونيفيل”: “شهود” على الحدود

تتزاحم زيارات الوفود الخارجيّة، المبادرات الدوليّة والمواعيد التي تُعنى بدعم الجيش اللبنانيّ، لكن تحت سقف معادلة أرساها السفير الأميركيّ الجديد ميشال عيسى، بلغة عربيّة واضحة…