هناك شبه إجماع في الداخل اللبنانيّ ولدى الدبلوماسيّين الغربيّين على أنّ النقلة النوعيّة التي خطتها السلطة اللبنانيّة في التفاوض مع إسرائيل قد تعفي لبنان من توسيع إسرائيل حربها عليه، “لكن لوقت ما”. إذا لم تستكمل السلطة سحب سلاح “الحزب”، فإنّ واشنطن لن تواصل لجم إسرائيل عن تدمير ترسانة “الحزب”. هذا ما شدّد عليه أكثر من وزير لبنانيّ ومن دبلوماسيّ لـ”أساس”. تبقى المراهنة على الظروف الخارجيّة والداخليّة لرئاسة سيمون كرم، الذي يتهيّب رئاسة وفد لبنان التفاوضيّ، وعلى صفاته، لتجنّب المخاطر.
وصف مسؤول حكوميّ لبنانيّ المعادلة الجديدة بعد رئاسة السفير السابق سيمون كرم وفد لبنان في لجنة “الميكانيزم” بقوله إنّه “حين تفاوض لا تقاتل”. لكنّ بنيامين نتنياهو نموذج للشذوذ عن هذه القاعدة، كما حصل الخميس بقصف جيشه مناطق جنوبيّة جنوب وشمال نهر الليطاني وأخرى بقاعيّة.
هناك شبه إجماع في الداخل اللبنانيّ ولدى الدبلوماسيّين الغربيّين على أنّ النقلة النوعيّة التي خطتها السلطة اللبنانيّة في التفاوض مع إسرائيل قد تعفي لبنان من توسيع إسرائيل حربها عليه، “لكن لوقت ما”
نتنياهو وقاعدة “التّفاوض تحت النّار“
جاء القصف غداة رئاسة كرم الوفد اللبنانيّ إلى الجلسة الـ14 لـ”الميكانيزم”. توخّى نتنياهو رسائل عدّة:
- لم ينتظر مفاعيل المرحلة الجديدة لتعيين رئيس الجمهوريّة جوزف عون مدنيّاً لرئاسة وفد لبنان. شاءت تل أبيب إفهام كلّ الوسطاء ولبنان أنّها لن توقف ضغطها العسكريّ عليه وعلى “الحزب”. أراد رئيس الوزراء الإسرائيليّ تثبيت القاعدة التي دأب على اتّباعها في غزّة وسوريا وسائر الميادين: التفاوض تحت النار.
- إسرائيل قادرة على الاحتفاظ بحرّية الحركة العسكريّة في لبنان على الرغم من الطلب الأميركيّ إليها “تخفيف” التصعيد، كما قال مصدر أميركيّ لقناة “الحدث” الإخباريّة في اليوم نفسه. تبرّر ضرباتها بحجّة ملاحقة ما تسمّيه محاولات “تأهيل “الحزب” بناه العسكريّة”. وتتقن تخطّي هامش ما طالبها به الأميركيّون من التزام “الكثافة المنخفضة” لعمليّاتها العسكريّة.
“الالتفاف” على المطالب اللّبنانيّة في “الميكانيزم“
- تسعى تل أبيب إلى فرض أجندتها. قبل اجتماع لجنة “الميكانيزم” حدّد نتنياهو وظيفتها بحوار سياسيّ في “التعاون الاقتصاديّ”، وهو ما دفع رئيس الحكومة نوّاف سلام إلى الردّ عليه في قناة “الجزيرة” معتبراً أنّه “ذهب بعيداً في توصيف الخطوة”. قال: “لبنان ليس بوارد إجراء مفاوضات سلام وتطبيع مع إسرائيل”. وخلال اجتماع الأربعاء الذي رأس فيه السفير كرم للمرّة الأولى “الوفد التقنيّ العسكريّ للبنان”، كما سمّاه عون، طرح رئيس الوفد الإسرائيلي الجديد يوري إزنيك ما طلبه نتنياهو. كان ذلك، حسب مصدر في الوفد اللبنانيّ لـ”أساس”، محاولة “للالتفاف على المطالب اللبنانيّة”، وهي وقف العمليّات العدائيّة التزاماً لاتّفاق وقف النار الذي أنشأ لجنة “الميكانيزم”، انسحاب الجيش الإسرائيليّ من المناطق التي يحتلّها، الإفراج عن الأسرى اللبنانيّين والتمهيد لتثبيت الحدود البرّيّة. لم يُشِر بيان السفير الأميركيّ الجديد ميشال عيسى، الذي أشاد بـ”قرار لبنان وإسرائيل الشجاع فتح قناة حوار”، إلى تعاون سياسيّ أو اقتصاديّ.
قرار عون “ضربة معلّم”. فكرم، السياديّ الذي انتقد بشدّة حرب إسناد غزّة، من المتمسّكين بمنطق الدولة
استباق إسرائيليّ لبحث بدائل “اليونيفيل“
- استبق القصف انتقال وفد ممثّلي الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة من دمشق إلى بيروت مساء الخميس. ومع أنّ مصدراً وزاريّاً أوضح لـ”أساس” أنّ الهدف الرئيس من مهمّة الوفد الاطّلاع على أوضاع سوريا، لكنّ شمولها لبنان يعطي دفعاً لجهود قيام مظلّة حماية للبلد من تصعيد إسرائيل.
أحد مواضيع النقاش مع الوفد بدائل انسحاب قوّات “اليونيفيل” خلال عام 2026. وهو ما أكّده سلام في جلسة مجلس الوزراء. قال إنّ البحث مع الوفد سيتناول “اعتماد صيغة لقوّة دوليّة مصغّرة في الجنوب بعد انتهاء مهمّة “اليونيفيل”. تل أبيب بتصعيدها تذكّر الوفد بأنّ لها رأيها في الترتيبات الأمنيّة. وهي لطالما احتقرت دور الأمم المتّحدة، ولا تكترث لتصنيف قيادة “اليونيفيل” المتكرّر لقصفها “انتهاكاً” للقرار الدوليّ 1701 (بيانها يوم الجمعة). ولم تفُت البيانَ الإشارةُ إلى “التقدّم المُحرَز بمواصلة القوّات المسلّحة اللبنانيّة عمليّاتها للسيطرة على الأسلحة والبنية التحتيّة غير المصرّح بها في الجنوب”.
نصائح البابا وأميركا وفرنسا… واستبعاد الخارجيّة
على الرغم من التصعيد الإسرائيليّ، أحاطت مناخات إيجابيّة بتعيين السفير كرم. هذا مع أنّ القرار اتُّخذ بلا تنسيق مع إحدى مؤسّسات الدولة اللبنانيّة المعنيّة بالتفاوض شكلاً ومضموناً، وهي وزارة الخارجيّة التي من أدوارها توثيق وقائع ونتائج أيّ تفاوض تتولّاه الرئاسة دستوريّاً. علم به الوزير يوسف رجّي من وسائل الإعلام. وهذه سقطة بالمعنى المؤسّساتيّ يقع استدراكها على عون وسلام، حتّى لا تلتحق بالسجال السياسيّ الدائر حول عدم دعوة رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” سمير جعجع إلى استقبال البابا ليون الـ14 في قصر بعبدا.
كرم ابن عائلة سياسيّة عريقة، تشرّب أفكار العيش المشترك والعروبة من خاله، أحد كبار رجالات السياسة اللبنانيّة والنائب السابق في ستّينيات القرن الماضي والأديب والشاعر المرحوم جان عزيز
لكنّ قرار عون “ضربة معلّم”. فكرم، السياديّ الذي انتقد بشدّة حرب إسناد غزّة، من المتمسّكين بمنطق الدولة. قال عنه البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير إنّه “لا يساوم على المبادئ”. ويمكن ذكر الآتي عن تعيينه:
- جاء في سياق مناخ دوليّ إقليميّ لتجنيب لبنان ضربة إسرائيليّة كبرى حذّرت منها مصر ودول عربيّة أخرى، وجرّاء نصائح أميركيّة وفرنسيّة وأمميّة. دعت مورغان أورتاغوس إليه منذ نيسان الماضي، وكرّرت باريس النصيحة مراراً وفق مصدر فرنسيّ لـ”أساس”، علاوة على أنّه تلبية لنصيحة البابا في خطابه قبل مغادرته بيروت الذي اعتبر فيه أنّ “القتال المسلّح لا يجلب أيّ فائدة، فالأسلحة تقتل، وأمّا التفاوض والوساطة والحوار فتبني”. ونصح “الحزب” بترك السلاح.
- حظي اختيار كرم بمظلّة سياسيّة لبنانيّة شبه جامعة. ويؤكّد مصدر رسميّ لـ”أساس” أنّ رئيس البرلمان نبيه برّي لم يوافق على اسمه من دون حصوله على قبول “الحزب”. فقرار من هذا النوع لا يتّخذه بلا حليفه.
إقرأ أيضاً: طهران تُحبط مسعى فرنسا لإبعاد الحرب عن لبنان
- فضّل برّي ضمناً ابن بلدة جزّين الجنوبية، التي رزحت تحت الاحتلال الإسرائيليّ 17 سنة. يدرك كرم بالملموس معاناة الجنوبيّين. سعى في تسعينيّات القرن الماضي إلى أن تكون بلدته نموذجاً لتحرير الجنوب عبر اتّصالات حثيثة مدعومة من الفاتيكان، تحت عنوان “جزّين أوّلاً”. اختبر من محاولته، ومن اشتراكه في الوفد اللبنانيّ إلى محادثات مؤتمر مدريد للسلام، الخبث الإسرائيليّ. اكتشف أيضاً أضرار الوصاية السوريّة التي أحبطت هذا الخيار. فضّل الاستقالة انسجاماً مع “قناعاتي” بعد حملة مفتعَلة من المنظومة السوريّة اللبنانيّة.
- كرم ابن عائلة سياسيّة عريقة، تشرّب أفكار العيش المشترك والعروبة من خاله، أحد كبار رجالات السياسة اللبنانيّة والنائب السابق في ستّينيات القرن الماضي والأديب والشاعر المرحوم جان عزيز. فجزّين المسيحيّة تقع وسط خليط طائفيّ، فالمحيط شيعيّ، والجار سنّيّ في صيدا، ودرزيّ في الشوف. ويهتمّ كرم بأن تراعي صيغ حلول أزمة لبنان طمأنة الطائفة الشيعيّة إزاء العدوانيّة الإسرائيليّة.
لمتابعة الكاتب على X:
