لم يكن خطأً ولا سهواً أن يُدرج العراق “الحزب” وجماعة الحوثيّين على لوائح الإرهاب. اتُّخذ أمر ذلك القرار بعد مراجعة وتدقيق، ونال رضا مستويات سياسيّة وقانونيّة ودستوريّة متعدّدة قبل أن يُنشر في جريدة “الوقائع” الرسميّة للعراق، وطبعاً بعد سؤال وتأكُّد إدارة الجريدة من صحّة قرار غير مألوف. ولا يليق بدولة أن تزعم أنّ النشر كان نتاج زلّة ارتكبها موظّف أو لجنة. بدا أنّ في القرار والتراجع عنه ما يكشف الحدّ الذي وصلت إليه حال تصدّع نفوذ “إمبراطوريّة” الوليّ الفقيه في الشرق الأوسط.
تفقد إيران تباعاً “عواصمها الأربع”، وهي بصدد فقدان بغداد، ولو بعد حين. خرجت دمشق من اللائحة، ويأفل بأس صنعاء، وتتمرّد بيروت يوماً بعد يوم، إضافة إلى أنّ غزّة باتت خارج حسابات الجمهوريّة الإسلاميّة ومرشدها. أمّا بغداد “درّة التاج” فتضع لساعات “المحور” على لوائح الإرهاب، وكأنّ الأمر تجربة أوّليّة لمآلات نهائيّة مقبلة.
صبيحة الخميس تلقّت إيران ومحورها صفعة عراقيّة صاعقة هي الأولى في تاريخ العراق بعد 2003. أدرجت بغداد رسميّاً “الحزب” وجماعة الحوثيّين على قوائم الكيانات الإرهابيّة مع “داعش” و”القاعدة” وأخواتهما، ثمّ تراجعت، بشكل مربك ركيك، عن القرار بعد ساعات قليلة فقط، مُعلنةً أنّ الأمر كان “خطأً تقنيّاً” سيُصحَّح فوراً.
لم يكن خطأً ولا سهواً أن يُدرج العراق “الحزب” وجماعة الحوثيّين على لوائح الإرهاب. اتُّخذ أمر ذلك القرار بعد مراجعة وتدقيق، ونال رضا مستويات سياسيّة وقانونيّة ودستوريّة
خيبة حكم
لا أحد في بغداد، أو في طهران وواشنطن، صدّق رواية “الخطأ الإداريّ”. لم يكن “نزوةً” نشرُ القرار في الجريدة الرسميّة، بل هو أكبر دليل على أنّ العراق دخل مرحلة جديدة تماماً في توازناته الاستراتيجيّة، يُعاد فيها ترتيب الأوراق تحت ضغط إدارة دونالد ترامب في البيت الأبيض، الذي خصّص للعراق مبعوثاً خاصّاً من أصول عراقيّة، على منوال إرساله إلى لبنان مبعوثاً ثمّ سفيراً من أصول لبنانيّة.
صدر القرار الأصليّ للتصنيف فعليّاً في أواخر تشرين الأوّل الماضي، لكنّه بقي طيّ الكتمان، ربّما لأسباب خبيثة تتعلّق بتمرير الانتخابات التشريعيّة الأخيرة، ثمّ أُعيد الكشف عنه لأسباب خبيثة أيضاً قد تكون على علاقة باختيار رئيس جديد للحكومة. والقرار صادر عن لجنة يرأسها محافظ البنك المركزيّ العراقيّ علي محسن العلاق، وفي عضويّتها ممثّلو وزارات الخارجيّة والداخليّة والماليّة والعدل والتجارة وجهاز مكافحة الإرهاب والاستخبارات والرقابة الماليّة ومكتب غسل الأموال. والقرار، بهذا المعنى، سياسيّ بامتياز يتقاطع مع ضغوط أميركيّة شديدة العلنيّة.
كانت واشنطن قد هدّدت مراراً، بشكل علنيّ، بفرض عقوبات ثانويّة مدمّرة على البنك المركزيّ العراقيّ وشركة تسويق النفط (SOMO) وأكثر من عشرين مصرفاً عراقيّاً، إذا لم يلتزم العراق معايير مجموعة العمل الماليّ (FATF) بشكل صارم. والهدف المعلن، الذي تدركه بغداد، هو قطع كلّ القنوات الماليّة التي تستخدمها إيران للالتفاف على العقوبات الأميركيّة عبر العراق.
لم يمرّ القرار. كان الغضب سريعاً من طهران وبيروت وصنعاء، ومن داخل العراق، ومن داخل “الإطار التنسيقيّ” القريب من طهران. تراجع محمد شياع السوداني وحكومته وفتحا تحقيقاً لاكتشاف المسؤول أو اختراعه. وصفت الفصائل المسلّحة العراقيّة الموالية لإيران القرار بـ”الخيانة العظمى” و”العار التاريخيّ”، واتّهمت السوداني بالخضوع الكامل للرئيس الأميركيّ. وخلال ساعات فقط تحوّل ما اعتُبر تحوُّلاً تاريخيّاً يتدافع المحلّلون على تفسيره إلى خيبة حكم في بغداد.
لم يكن “نزوةً” نشرُ القرار في الجريدة الرسميّة، بل هو أكبر دليل على أنّ العراق دخل مرحلة جديدة تماماً في توازناته الاستراتيجيّة
قد نعرف لاحقاً حيثيّات تلك “الفضيحة” وما سيُبتكر لها من سيناريوهات تآمريّة مزعومة. ومن الأسئلة ما يدور بشأن وجاهة صناعة قرار بهذه الخطورة وإعلانه وإسقاطه خلال ساعات. تجد بغداد نفسها في موقف لا تُحسد عليه: إمّا الامتثال للضغوط الأميركيّة الجديدة القاسية، أو مواجهة غضب إيرانيّ قد يصل إلى قطع الكهرباء والغاز، أو تفعيل الفصائل لعمليّات داخليّة، أو حتّى تهديدات مباشرة من طهران التي لا تستسهل أن تفقد الملاذات الآمنة لشبكاتها الماليّة في العراق.
ضربة كبيرة
المفارقة الحرجة أنّ هذا الجدل يأتي في توقيت حسّاس للغاية: مفاوضات اختيار رئيس الوزراء الجديد بعد فوز “الإطار التنسيقيّ” بأغلبيّة مريحة في الانتخابات الأخيرة. عند إعلان القرار قبل إسقاطه، بدا أنّ الأمر يوفّر للسوداني ورقة رابحة أمام الأميركيّين والسنّة والأكراد بتقديم نفسه “رجل الاعتدال” القادر على مواجهة النفوذ الإيرانيّ. وكان ذلك التحوّل سيُضعف موقف الفصائل المتشدّدة (عصائب أهل الحقّ، كتائب حزب الله، حركة النجباء، جناح بدر المتشدّد) التي تعارض بقاءه في منصبه، ويُضعف موقف نوري المالكي الكاره له ولفكرة التجديد له على رأس الحكومة.
أفقد التراجع السريع عن القرار السوداني هذا الامتياز، وربّما عزّز حظوظ بدائل كانت مستبعَدة. في العراق من كان ينصح قبل أيّام بعدم التركيز على لائحة المتنافسين المعلنة، ذلك أنّ خلف الأبواب المغلقة شخصيّات بديلة، بعضها من داخل هياكل الدولة. بدا أنّ تلك “الفضيحة” قد تُسقط السوداني من دون تعزيز تقدّم الوجوه الموالية لإيران، وهو ما يستدعي اللجوء إلى خيار ثالث قريب من واشنطن غير معادٍ لطهران.
إقرأ أيضاً: سوريا المكروهة إسرائيلياً: من إدلب إلى بيت جن
حتّى لو تراجعت بغداد، يُمثّل صدور القرار أكبر ضربة معنويّة وسياسيّة وماليّة لإيران في العراق منذ 2003. لن تنسى طهران أنّ حليفها الأقرب طعنها في الظهر، ولو لساعات قليلة. يُشكّل القرار، على الرغم من التراجع عنه، بداية تحوُّل استراتيجيّ حقيقيّ نحو الابتعاد التدريجيّ عن التبعيّة الإيرانيّة. في بغداد، وداخل “الإطار التنسيقيّ”، من يخشى لجوء واشنطن إلى فرض عقوبات موجعة على مؤسّسات المال في العراق، وهو ما من شأنه تهديد قيمة الدينار وتوقيف تصدير النفط بالدولار. بدا أنّ العراق بات يقترب من لحظة الاختيار بين “المحور” والعالم.
لمتابعة الكاتب على X:
