قد لا ترتبط خطوة رئيس الجمهوريّة جوزف عون لتكليف السفير سيمون كرم رئاسة الوفد اللبنانيّ في اجتماعات لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائيّة بين لبنان وإسرائيل لكونه شخصيّة مدنيّة برسالة قويّة بعثها بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر إلى “الحزب” قبل اختتام زيارته التاريخيّة للبنان، إلّا أنّها لا تنفصل في الوقت نفسه عن التعطّش اللبنانيّ إلى الانتقالة الحاسمة من قعر الحروب والأزمات إلى وضوح السلام والاستقرار.
يفرض مجيء الخطوة بتوافق الرؤساء اللبنانيّين الثلاثة موعداً فارقاً يحمل في طيّاته أسئلة أكثر ممّا يحمل إجابات، وتشكّل هذه الأسئلة نسخة طبق الأصل عن تلك التي يطرحها “الحزب” في دوائره الضيّقة في لحظة اقتراب من حقيقة لا تحتمل أيّ مراوغة أو تلاعب، فلا لبنان يحتمل ولا بيئة “الحزب” الوفيّة لخيار التمسّك بالسلاح تحتمل إطالة أمد التكاذب أكثر من ذلك.
تقول لحظة الحقيقة تلك لـ”الحزب” إنّ مهمّة مصارحة بيئته بقرب الانخراط في مظلّة الدولة اللبنانيّة أصبحت أسهل من أيّ وقت مضى، وذلك لعدم اختلاف خطوة الرئاسة اللبنانيّة بشيء عن أجواء ترسيم الحدود البحريّة عام 2022، مع مفارقة لافتة تمثّلت في تعميم الثنائيّ حالة من “صمت القبور”، وهو ما أتاح للاجتماع فرصة الانعقاد بعيداً عن ضجيج التجاذب والتصعيد الكلاميّ.
قد لا ترتبط خطوة رئيس الجمهوريّة جوزف عون لتكليف السفير سيمون كرم رئاسة الوفد اللبنانيّ في اجتماعات لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائيّة بين لبنان وإسرائيل لكونه شخصيّة مدنيّة
إدارة التّهدئة
غير أنّ ما يثير المخاوف من تبدّل ذلك المشهد الهادئ هو سيل المواقف الإسرائيليّة التي تعاملت مع الحدث بقدر كبير من الغطرسة، على نحو بدت فيه تل أبيب وكأنّها تستجدي خروج “الحزب” عن طوره، أكثر من بيئة “الحزب” نفسها، لا سيما في حديث رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو عن “علاقات اقتصاديّة” مع لبنان، وإشارة بيان لجنة “الميكانيزم” إلى أنّ الشخصيّة المدنيّة الإسرائيليّة التي شاركت في اجتماع الناقورة هي المدير الأعلى للسياسة الخارجيّة في مجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ يوري رزنيك.
في الشكل، انعقدت اللجنة بصيغتها الجديدة، وهو ما شكّل موافقة ضمنيّة على إعطاء الدولة اللبنانيّة هامشاً أوسع في إدارة التهدئة، وأعطى “الحزب” مساحته لصياغة سرديّة مقنعة لجمهوره تقول إنّ ما جرى ليس تنازلاً عن ثوابت المقاومة بل تفويضٌ للدولة بأن تتولّى الشقّ التقنيّ – السياسيّ من الهدنة، فيما يبقى السلاح في موقع الردع إلى أن تتحقّق الشروط الوطنيّة الكاملة، وإنّ كلّ ما يحصل يجري تحت سقف “حماية لبنان” لا تحت سقف مقايضته أو المساومة عليه!
في المقلب الآخر، يقرأ جزء من اللبنانيّين في هذه الخطوة رسالةً إلى تل أبيب أكثر ممّا هي رسالة من تل أبيب، مفادها أنّ بيروت تريد تأجيل الضربة الإسرائيليّة المحتملة مستفيدة من إطلاق مسارٍ تفاوضيّ تقنيّ يمنح الجميع فسحة تنفّس.
إسرائيل التي لم تتوقّف عن خرق الأجواء وتهديد الحدود، تراقب بدقّة مسار خطّة الجيش اللبنانيّ لحصر السلاح غير الشرعيّ في الجنوب وسائر المناطق، وهي خطّة يُنتظر أن تُتوَّج بتقرير مفصّل عن وضع السلاح خارج الشرعيّة مطلع عام 2026، بما في ذلك سلاح “الحزب” وسواه من المجموعات المسلّحة، في حين تحاول الدولة أن تقول للداخل والخارج معاً إنّها لا تترك هذا الملفّ معلّقاً، بل تعمل على تنظيمه وتدويره نحو لحظةٍ يصبح فيها السلاح، كلّ السلاح، موضوعاً لقرارٍ وطنيّ جامع لا لبازارٍ داخليّ أو رسائل خارجيّة متبادلة.
إقرأ أيضاً: تحولات المقاومة في لبنان: لا حل إلا بالدولة
شجاعة الدّولة و”الحزب”؟
مع ذلك، يبقى نجاح هذه اللحظة أو سقوطها مرهوناً بشجاعة الطرفين: شجاعة الدولة في أن تلتقط الفرصة التاريخيّة لفرض منطقها السياديّ كاملاً، من خلال خطّة جدّيّة لاستعادة كلّ الأراضي المحتلّة وتجفيف منابع أيّ سلاح خارج مؤسّساتها، وشجاعة “الحزب” في ألّا يضيّع نتاج عقود من التضحيات عبر التشبّث الأعمى بسلاحٍ تحوّل في نظر العالم إلى معضلة داخليّة بعدما كان عنواناً للمقاومة.
اجتماع لجنة “الميكانيزم” الأخير ليس وصفة سحريّة، لكنّه مؤشّر واضح إلى أنّ الزمن يتغيّر، وأنّ لبنان يقترب من لحظة لا يعود فيها ممكناً تأجيل السؤال الكبير: هل نريد دولة واحدة بسلاحٍ واحد وقرار واحد، أم نواصل الدوران في حلقة الأمر الواقع حتّى تفرض علينا الحروب شكل دولتنا المقبلة؟
لن يُكتب الجواب في محاضر الاجتماعات ولا في بيانات المزايدات، بل سيرسمه اللبنانيّون بأفعالهم، إمّا في اتّجاه قيام دولة حقيقيّة تمسك بقرار الحرب والسلم، أو في اتّجاه خسارة ما بقي من وطن تمزّقه الساحات المتقابلة وتحرق الإملاءات كلّ فرص قيامته!
