تأتي المفاوضات النووية في باريس في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع تحوّلات عميقة في موازين النفوذ داخل الشرق الأوسط. وفيما تعود إيران إلى طاولة التفاوض مثقلة بخسائر سياسية وعسكرية واقتصادية، يبرز الدور السعودي كلاعب محوري في تيسير المسارات وفتح القنوات بين طهران وواشنطن. وبين الرغبة في تجنّب المواجهة العسكرية والسعي إلى تسويات مدروسة، تتحرّك الدبلوماسية بهدوء في الكواليس، وسط تساؤلات كبرى حول شكل المرحلة المقبلة وحدود إعادة رسم الخرائط السياسية في المنطقة.
تعود طهران مجددًا إلى خيار المفاوضات الشاملة، بعدما تبيّن لها أن لا سبيل آخر لضمان بقاء النظام سوى التفاهمات الدولية. فالمسار النووي العلني مع الترويكا الأوروبية في باريس يخفي في عمقه تفاوضًا أوسع يشمل الصواريخ والنفوذ الإقليمي والعلاقة المعقّدة مع الولايات المتحدة. إلا أن إيران تدخل هذا المسار بخطوات مثقلة بالتناقضات، نتيجة الانقسام العميق داخل مؤسساتها السياسية والأمنية، وتراجع قدرتها على فرض شروطها كما في السابق.
تخوض طهران جولة باريس كإدارة للوقت السياسي بانتظار فتح الباب الحقيقي للمفاوضات المباشرة مع واشنطن. لكنها لم تعد تمتلك القدرة على المبادرة منفردة، بعد أن خسرت جزءًا كبيرًا من عناصر قوتها الإقليمية. ومن هنا، باتت تعتمد بشكل أساسي على وسطاء إقليميين فاعلين، وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية، التي تحوّلت إلى ركن أساسي في رسم التوازنات الجديدة للمنطقة.
لم يعد خافيًا أن طهران باتت ترى في السعودية طوق نجاة سياسي ودبلوماسي في هذه المرحلة الحساسة
هندسة سياسية جديدة للمنطقة
تشهد المنطقة إعادة بناء شاملة لهندستها السياسية، تقودها المملكة العربية السعودية بوصفها مركز الثقل الجديد في الشرق الأوسط. فالمرحلة التي كانت فيها الولايات المتحدة وأوروبا تنظّمان شؤون المنطقة منفردتين شارفت على نهايتها، كما أفلتت المرحلة الذهبية للنظام الإيراني الذي اتكأ طويلًا على شعارات محور “الممانعة”.
اليوم، ثمة توافق إقليمي ودولي متزايد، تتقدمه الرياض، على أن المفاوضات الإيرانية ـ الأميركية باتت حتمية، لأن البديل عنها هو الحرب، وهي خيار لم يعد مقبولًا أو مضمون النتائج لأي من الأطراف. وتعمل السعودية ضمن رؤية تقوم على ربط النزاعات لا تفجيرها، وعلى تسويق حلول واقعية تنطلق من الشرعية الدولية، وفي مقدّمها حلّ الدولتين، بوصفه المدخل الإلزامي لاستقرار الإقليم.
أظهرت زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى باريس مستويين من الأداء: الأول إدارة الوقت سياسيًا عبر أوروبا، والثاني إظهار عودة حذرة إلى الانفتاح بعد قطيعة دامت منذ عام 2019. ورغم الدور الاستشاري الذي ما زالت تلعبه الترويكا الأوروبية، تدرك طهران أن القرار التنفيذي النهائي لا يزال في يد واشنطن.
من هنا، تستخدم إيران الحوار الأوروبي لكسر العزلة جزئيًا وتوجيه رسائل مزدوجة: تطمين إلى الرياض بوصفها المرجعية الإقليمية المؤثرة، وإشارة غير مباشرة إلى واشنطن بأنها مستعدة للعودة إلى الطاولة بشروط أقل تصعيدًا. وفي هذا السياق، تلعب السعودية دور المسهّل لخفض التوتر، انطلاقًا من قناعتها بأن أي مواجهة عسكرية ستفجّر المنطقة بأكملها، فيما تتيح المفاوضات الباردة بناء هوامش أمنية واقتصادية قابلة للاستثمار.
تحوّلت السعودية إلى دولة إقليمية كبرى ذات حضور دولي متنامٍ، منذ اتفاق بكين عام 2023، حيث بدأت مرحلة جديدة تقوم على تصفير الخلافات، وتحويل التناقضات إلى فرص تعاون
من دولة وسيطة إلى ركيزة إقليمية
تختلف الرؤية السعودية جذريًا عن المقاربة الإيرانية. فالمملكة تبني سياستها على مفاهيم الاستقرار والشرعية الدولية، فيما لا تزال طهران تتحرّك بمنطق حماية النظام حتى على حساب شعبها ومحيطها.
لقد تحوّلت السعودية إلى دولة إقليمية كبرى ذات حضور دولي متنامٍ، منذ اتفاق بكين عام 2023، حيث بدأت مرحلة جديدة تقوم على تصفير الخلافات، وتحويل التناقضات إلى فرص تعاون، وخفض كلفة المواجهات التي عطلت لعقود مسارات التنمية في العالم العربي. في المقابل، لا تزال إيران أسيرة بنيتها المغلقة وصراعاتها الداخلية وأزماتها البنيوية.
إقرأ أيضاً: لماذا تسريبات “التّوتّر” في محادثات ترامب – بن سلمان؟
لهذا، لم يعد خافيًا أن طهران باتت ترى في السعودية طوق نجاة سياسي ودبلوماسي في هذه المرحلة الحساسة. تراهن على وساطتها لدى واشنطن، وتستعين بثقلها الإقليمي لمنع الانزلاق نحو المواجهة العسكرية. غير أن نجاح هذا الرهان يبقى مشروطًا بمدى استعداد إيران للتخلي عن سياسة الغموض والمناورة، والانخراط الجدي في تسويات واقعية تحفظ لها موقعًا في الإقليم دون تهديد استقراره.
