فارقٌ كبيرٌ وهوّة شاسعة بين أولئك الذين يُحاسبون كبار قادتهم بينما يربحون ويُنجزون ويتقدّمون، وأولئك الذين يظلّ الإنكار حليفهم على الدوام. لا يخسرون ولا ينكسرون ولا يعترفون. خلاصة القول عندهم أنّهم انتصروا. ولو أنّ الانتصار هو على شاكلته تلك، فيا مرحباً بالهزائم.
“اعلموا أنّ النصر نصران”. يقول نعيم قاسم لجمهوره المفجوع في آخر إطلالاته. “نصر في القلب، ونصر على الأعداء، فمن انتصر في قلبه وإيمانه، انتصر حتماً على عدوّه ولو بعد حين”.
هذه هي خلاصة الحرب بالنسبة لـ”الحزب”. هذه خلاصة الفجيعة. خلاصة البيوت والأرزاق والأوهام التي ساوت الأرض. لا شيء بخلاف ذلك. إسرائيل وضعت قنبلة متنقّلة بجيوب المسؤولين الكبار وصولاً إلى السفير الإيرانيّ في بيروت مجتبى أماني. ثمّ قتلت من قتلت في اجتماع القادة. بعدهم السيّد الكبير. ولاحقاً السيّد البديل. مروراً بقادة المحاور وأحجار الزوايا ومراجع القوّة الضاربة. والأشباح الذين اصطادتهم المقاتلات الإسرائيليّة، بعدما كانوا يسكنون بين الناس منذ عشرات السنوات، من دون أن يعرف أحد أنّ على رأس هذا الرجل أو ذاك جائزة ماليّة تتجاوز ملايين الدولارات.
أهازيج الانتصار
كلّ هذا والنصر نصران. لا هزيمة في تاريخه ولا انكسار ولا مراجعة ولا حساب. ينتصر “الحزب” في كلّ أحواله. حتّى حين ينهزم شرّ هزيمة. يظلّ منتصراً في ذاته وفي قلبه. تماماً كما لو أنّ هذه البلاد ومستقبلها وازدهارها، وهؤلاء الناس وأرواحهم وأحلامهم، مجرّد أدوات وضيعة في كباشٍ أيديولوجيٍّ لا ينتهي. إذا مات الميت فهو شهيد. وإذا عاش فإنّما يعيش بحثاً عن موته.
إسرائيل وضعت قنبلة متنقّلة بجيوب المسؤولين الكبار وصولاً إلى السفير الإيرانيّ في بيروت مجتبى أماني
لهذه الفجيعة أصل ثابت في إيران. يموت كبار قادتها بضربة واحدة، ولا أحد يعرف مَن المسؤول ومَن المتورّط. هنا أيضاً النصر نصران. يُقتل إسماعيل هنيّة في غرفة نوم الحرس الثوريّ. ولا أحد يعرف على وجه الدقّة كيف قُتل. مَن ساعد ومَن سهّل ومَن ضرب وكيف ضرب. لا رواية رسميّة ولا تحقيق ولا محاسبة. بلاد مفتوحة أمام كلّ شيء سوى الاعتراف بالفشل أو الهزيمة.
يرّد الموساد بتهكّم غير مسبوق على خبر استهداف مقرّه في تل أبيب: لا بأس. لا يوجد أحدٌ منّا في الموقع. جميعنا في إيران. يقول القائد السابق للموساد يوسي كوهين في كتابه الذي نُشر منذ أسابيع: “سرقنا أرشيف إيران النوويّ بالكامل. أطنان الوثائق والملفّات والأدلّة. تمّ نقلها بشاحنات عملاقة بعضها بارتفاع 6 أمتار. استمرّت العمليّة على مدى ساعات في قلب طهران. ثمّ وصل الأرشيف سالماً إلى تل أبيب. عرفنا كلّ شيء. أخبرنا العالم كلّه بما اكتشفناه. ثمّ قتلنا عرّاب المشروع النوويّ محسن فخري زادة على قارعة الطريق عبر مدفع أتوماتيكيّ رشّاش يتجاوز وزنه 6 أطنان”.

يحدث هذا كلّه من دون ضجيج. أنظمة ديكتاتوريّة معقّدة ومغلقة وتتّصل جميعها برأس واحد. لا مكان للرأي العامّ. لا مكان لمحاسبة أو محاكمة أو تحقيق. في أحسن الأحوال ثمّة إعدامات ميدانيّة تُجرى خلف الكواليس، تقابلها منظومات إعلاميّة فاقعة تردّد أهازيج الانتصار على الدوام.
في الجانب الآخر. ضربت إسرائيل بلا هوادة على 7 جبهات. سجّلت ولا تزال تسجّل اختراقات ميدانيّة واستراتيجيّة في أكثر الساحات تعقيداً وحساسيّة على الإطلاق. لكنّها في موازاة ذلك تسحل رئيس حكومتها إلى قاعة المحاكمة. ثمّ تُعاقب كبار مسؤوليها وكبار ضبّاطها ورؤساء أجهزتها الأمنيّة والعسكريّة على فشلهم الرهيب في استشراف أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل. العشرات تمّت إقالتهم وقد كانوا يشغلون أعلى المناصب العسكرية والأمنية. آخرون تقرّر توبيخهم على نحو علنيّ وواضح. والتوبيخ في إسرائيل أشدّ وقعاً وفتكاً من الإقالة ومن السجن.
الفارق الكبير والمهول بين إيران وإسرائيل يكمن في الإنكار
العودة إلى العقل
قامت إسرائيل بالأمر نفسه عقب انتهاء حرب تمّوز. شكّلت لجنة تحقيق مطلقة اليدين ومطلقة الصلاحيّات. فعلت “فينوغراد” فعلها بالمستوى السياسيّ والأمنيّ والعسكريّ والاستخباريّ. من رأس الهرم حتّى آخر جنديّ في ميدان المعركة. من ينسى صورة إيهود أولمرت في قاعة المحاكمة ثمّ خلف القضبان؟ كانت تلك الصورة المكثّفة عن الهزيمة المدوّية في عيوننا، لكنّها في الحقيقة الصورة الأكثف عن الدولة التي تُحاسِب، وعن الرأي العامّ الذي يحضر ولا يغيب.
كان يُمكن لإسرائيل أن تكتفي بإنجازاتها الهائلة على المستويات الاستراتيجيّة، لتقول عبرها إنّ الانتصار الكبير يجبّ ما قبله، وإنّ الإخفاق المباغت شكّل بحدّ ذاته حافزاً للصحوة والتوثّب والانتقام. لكنّها لم تفعل. ولو فعلت لسلكت درب إيران، ثمّ صارت تردّد مثل أذرعها: النصر نصران.
كلّ الفارق في الإنكار
الفارق الكبير والمهول بين إيران وإسرائيل يكمن في الإنكار. لا مراجعة في إيران نفسها، لا قبل الثورة الخضراء ولا بعدها. لا قبل الاتّفاق النوويّ ولا بعده. لا قبل الحرب ولا بعدها. لا مراجعة في سوريا، وقد دخلتها الجحافل المذهبيّة الحاقدة من كلّ حدب وصوب، لمناصرة نظام أقلّويّ سفّاح ضدّ الكثرة الكاثرة من شعبه.
لا مراجعة في بيروت قبل حرب تمّوز وبعدها، قبل محاصرة السراي وبعدها، قبل 7 أيّار وبعدها، قبل حرب الإسناد وبعدها، لا أحد في المحور يعترف بالخطأ أو بالهزيمة أو بالسقوط أو بالانكسار، الجميع يعزف على موجة أيديولوجيّة وعقائديّة من طراز خشبيّ، وآخر ما يعنيهم هو الرأي العامّ، فهؤلاء كلّهم عوامّ.
مشكلتنا المستدامة التي لا تُحلّ لا بصاروخ فرط صوتيّ، ولا حتّى بقنبلة نوويّة، بل بالعودة المكتملة إلى العقل
لا يعرفون ولا يفهمون ولا يدركون. وليس عليهم سوى أن يصفّقوا وأن يصمتوا وأن يموتوا على دروب الانتصارات الإلهيّة. فوليّ أمرهم أعلم بحالهم، وقد أخبرهم أنّ “الحزب” الذي أثكلهم ولا يزال، أهمّ لبطونهم الجائعة ولبلادهم الموجوعة من الخبز ومن الماء.
في إسرائيل الفاشيّة والعنصريّة والتوسّعيّة والدمويّة والغاصبة، البوصلة هي المواطن وأمنه واستقراره وكرامته ولقمة عيشه، وفي بلادنا “الحزب” أهمّ من الخبز. السلاح أهمّ من الماء. موطئ قدم المرشد على ضفاف المتوسّط أهمّ من الكرامة ومن الحياة.
إقرأ أيضاً: نبيه برّي حامل الهميّن
هذه هي مشكلتنا المستدامة التي لا تُحلّ لا بصاروخ فرط صوتيّ، ولا حتّى بقنبلة نوويّة، بل بالعودة المكتملة إلى العقل. والشيعة في لبنان أهل عقل وأهل بصيرة وأهل منطق.
لمتابعة الكاتب على X:
