يقترب لبنان من نقطة اللاعودة. يدنو بكلّ مؤسّساته الإجرائيّة إلى نقطة واحدة لا بديل عنها ولا قرين، بعدما بات عليه إثبات فردانيّة الأداء الحكوميّ الصادقة: إمّا أن يكون لبنان دولة، أو لا يكون. لا مجال للأعذار ولا حلول بالتردّد. ماذا حصل؟
قامت بعض الدوائر التنفيذيّة، ومعها شخصيّات مؤثّرة في الإدارة الأميركيّة، بإلغاء مواعيد مهمّة كانت مقرَّرة لقائد الجيش في الأسبوع الماضي. تبع ذلك إلغاء القائد للزيارة، وهو ما أدّى إلى وقوع المؤسّسة العسكريّة للمرّة الأولى في فكّي كمّاشة الضغط الأميركيّ والدوليّ وحيرة السلطة اللبنانيّة.
تلقّت المؤسّسة العسكريّة كرة النار، وهي ليست المستهدَفة، بل السلطة اللبنانيّة والحكومة. استقبلت المؤسّسة العسكريّة الرسالة غير الحميدة بصفتها ممثّلة الدولة اللبنانيّة العسكريّة الشرعيّة الوحيدة، والشريكة التي لا نظير لها للمجتمع الدوليّ، والخاضعة بحسب الدستور اللبنانيّ لقرارات مجلس الوزراء.
استُتبع ذلك بتحرّكات شاملة وسريعة مع دخول فرنسيّ، مدعوم بتنسيق سعوديّ – أميركيّ، بهدف ترتيب الإشكاليّة وتنظيم ربط النزاع خدمةً للملفّ اللبنانيّ. ماذا في التفاصيل؟
تتنبّه الإدارة الفرنسيّة إلى نقطتين أساسيّتين:
1- مجهود “الحزب” وسعيه المحلّيّ إلى خلق مروحة خلافات كبيرة بين أطراف السلطة التنفيذيّة في لبنان، واللعب على وتر تأخير تنفيذ اتّفاقه المتعلّق بحصريّة السلاح.
2- سعي الكيان الإسرائيليّ إلى تقريب الإدارة الأميركيّة من رؤيته، وإبعادها بالتالي عن لغة المجموعة الدوليّة و”الميكانيزم”، وتجفيف كلّ مساحات التفهّم الأميركيّ السابق للواقع اللبنانيّ.
3- بدعة الترويج لـ”ميكانيزم” ثانية متخصّصة بشمال الليطاني.
الأحداث الأخيرة، وخصوصاً بعد دخول لبنان عصر اتّفاق تشرين الثاني في العام الماضي، فرضت تغييراً في طريقة التعامل الإقليميّة
الجهود الفرنسيّة
تنطلق الجهود الفرنسيّة، المدعومة سعوديّاً وأميركيّاً، لاحتواء الطرفين اللذين يتراجَعان عن الاتّفاق، أي “الحزب” والكيان الإسرائيليّ. يُعمَل على ذلك عبر لقاءات واتّصالات مكثّفة، محورها تذليل العقبات التي تهدّد مفعول اتّفاق تشرين الثاني. يوجد اختلاف كبير داخل الإدارة الأميركيّة على تكتيك التعامل مع الأزمة اللبنانيّة، وهو ما يعرّض الحكومة اللبنانيّة لضغط كبير، مع انغماس لبنانيّ في ضبابيّة القرارات واتّساع الفجوة بين مواقف العهد الإعلانيّة وآليّاته التنفيذيّة الواقعيّة.
تزيد هذه العوامل من وتيرة المساعي الفرنسيّة لحلّ الأزمة. يتبلور الجهد الفرنسيّ في الإعداد لعقد جولات فرنسيّة، وسعوديّة – فرنسيّة، وأميركيّة، سيكون الملفّ اللبنانيّ الطبق الأساسيّ فيها. تُناقَش فيها الأوضاع انطلاقاً من الجنوب اللبنانيّ وصولاً إلى حدوده الشرقيّة مع سوريا، التي أصبحت جزءاً أصيلاً من الحلّ في الأزمة المستجدّة.
يجد الدور الفرنسيّ براعته في مثل هذه المراحل، حينما تخفّ سلاسة الأداء اللبنانيّ ويتراجع الرضى الأميركيّ والأمميّ. تجري المعالجة السريعة نظراً لارتفاع منسوب القلق، وخشية أن يؤثّر قرار الإلغاء سلبيّاً في موعد انعقاد مؤتمر دعم الجيش اللبنانيّ أو يؤدّي إلى ترنّحه. باتت الأولويّة لتبديد الريبة الأميركيّة، إذ لم يعد ممكناً التفاهم على التفاصيل قبل معالجة هذه الأزمة.
كانت كلير لوجاندر قد زارت لبنان وعرضت مع قائد الجيش العمل على تطبيق اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة، وحذّرت من دخول لبنان مرحلة جديدة تشبه في مفاعيلها المرحلة التي سبقت حوادث البيجر واندلاع حرب الستّة والستّين يوماً.
تتركّز الجهود الفرنسيّة، بالتنسيق مع الشركاء الإقليميّين والدوليّين، على:
– إيجاد حلول للوضع المتوتّر ومعالجة الأزمة التي تسبّبت في إلغاء زيارة قائد الجيش، والعمل على جدولة لقاءات جديدة.
– ضمان استمرار الدعم الدوليّ والثقة بالجيش اللبنانيّ واستقرار لبنان.
– إعادة لبنان إلى زخم مرحلة بداية تطبيق الاتّفاق عبر استمراريّة المحادثات ومعالجة الأسباب الجذريّة للأزمة.
تنطلق المساعي من إعادة الزخم للجهود اللبنانيّة الداعمة للحكومة، والتخفيف من تراجيديّة أدائها، وزيادة براغماتيّتها الدستوريّة
تشكو دوائر فرنسيّة وشخصيّات لصيقة بالأزمة اللبنانيّة من عدم انتظام في تظهير الموقف اللبنانيّ الرسميّ، المُراوح بين الطرح العشوائيّ لحصريّة السلاح بيد الدولة بشكل نهائيّ، وحصره عبر الاستراتيجية الدفاعيّة غير المرحَّب بها، وسياسة احتوائه وتجميده في مكانه غير المقبولة أبداً.
يعكس هذا كلّه عدم نجاعة السلطة في أداء مهامّها، مع تزايد امتعاض الأميركيّين والفرنسيّين وبقيّة دول الخماسيّة من الخطاب الدائم لـ”الحزب” القائل إنّه يستعيد قوّته العسكريّة، وهو ما يمثّل خرقاً أوّليّاً وكبيراً لاتّفاق وقف العمليّات العدائيّة.
أين المشكلة مع الجيش؟
لم تكن المشكلة في مصطلح “العداء”، الذي تتفهّمه أميركا جيّداً وتعاملت على أساسه مع لبنان منذ عقود، خصوصاً أنّه مصطلح دستوريّ يرِد في متن الدستور اللبنانيّ، وتقوم عقيدة الجيش اللبنانيّ عليه وعلى حفظ السيادة ومكافحة الإرهاب.
تتعلّق المشكلة مباشرة ببطء المؤشّرات السياسيّة الإجرائيّة، التي لا تتماشى مع حزم القرارات التنفيذيّة الحكوميّة. خلق ذلك هامشاً من الفراغ، وأدخل البلاد في موجة من التلبّك، ووضَع الحكومة في حيرة: تعتبر سلاح “الحزب” غير شرعيّ تنفيذاً، وتعدّه مقاومة واقعاً، وهذا خلافاً للدستور والقرارات الدوليّة واتّفاق وقف العمليّات العدائيّة. وهو ما عزّز التململ الأميركيّ من عدم جدوى الخطوات السياسيّة اللبنانيّة وانخفاض منسوب الثقة بها.
شكّل الإلغاء المتبادل للمواعيد بين قائد الجيش اللبنانيّ والإدارة الأميركيّة سابقة تاريخيّة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة المعاصرة. لم يسبق أن جرى التعامل مع المؤسّسة الأمنيّة الأولى في لبنان بهذه الصراحة. اعتادت واشنطن أن تجنِّب الجيش التجاذبات، وترفعه فوق الخلافات، حتّى في أصعب المراحل بعد “الطائف” وفي زمن الوصاية السوريّة والضغط الإيرانيّ وبطش “الحزب”.
لكنّ الأحداث الأخيرة، وخصوصاً بعد دخول لبنان عصر اتّفاق تشرين الثاني في العام الماضي، فرضت تغييراً في طريقة التعامل الإقليميّة والدوليّة، فخفتت رماديّة الصورة اللبنانيّة، وتراجعت القدرة على اللعب على عامل الوقت.
تلقّت المؤسّسة العسكريّة كرة النار، وهي ليست المستهدَفة، بل السلطة اللبنانيّة والحكومة
ينبغي على الدولة اللبنانيّة تفهّم جدّيّة الإدارة الأميركيّة والدوليّة في مساعدتها، وهو ما تعمل الإدارة الفرنسيّة على تذليله في ظلّ تقلّص ترف الوقت. لا تشجّع على رمي السلطة اللبنانيّة أعباءها على الجيش، إذ إنّه ليس الجهة المعنيّة بتحمّل هذه الكلفة السياسيّة. يجب ألّا يدفع الجيش الثمن عن السلطة بأكملها.
إقرأ أيضاً: لقاءات لوجاندر اللّبنانيّة: التّرسيم والميكانيزم
تنطلق المساعي من إعادة الزخم للجهود اللبنانيّة الداعمة للحكومة، والتخفيف من تراجيديّة أدائها، وزيادة براغماتيّتها الدستوريّة. لا داعي لخلق “ميكانيزم” ثانية متخصّصة بشمال الليطاني، مع اقتراب لبنان من عتبة مرحلة جديدة وشديدة عليه، أكّدتها الضربة الأخيرة في الضاحية نهار الأحد. يتجلّى ذلك أيضاً في موافقة الإدارة الأميركيّة على ارتفاع مستوى الاستهدافات وتوسّعها إلى شمال الليطاني، وفي تأكيد الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون ضرورة التعامل بحزم مع “الحزب”، على الرغم من انفتاح السلطة في لبنان على المفاوضات.
لمتابعة الكاتب على X:
