يتزايد الجدل داخل أوروبا بشأن الاعتماد المتنامي على التكنولوجيا الصينيّة في قطاعات النقل والطاقة والاتّصالات، وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على الأمن القوميّ، بعد اكتشاف ثغرات أمنيّة في حافلات كهربائيّة صينيّة الصنع يمكن، نظريّاً، تعطيلها عن بُعد عبر أنظمة التحكّم الرقميّة.
برز هذا الجدل في وسائل إعلاميّة أوروبيّة وأميركيّة على حدّ سواء. إذ أفادت تقارير نُشرت منتصف الأسبوع الماضي عبر مواقع صحف وشبكات تلفزة أوروبيّة وأميركيّة، مثل “يورونيوز” و”فرانس 24″ و”لوفيغارو” و”الغارديان” و”فايننشيل تايمز” و”وول ستريت جورنال”، بأنّ عمليّة تدقيق أمنيّ داخليّ أجرتها شركة “روتر” ROTER، أكبر مشغّل للنقل العامّ في النروج، على نظام النقل العامّ في أوسلو، كشفت عن وجود شريحة SIM مجهولة الهويّة مخفيّة داخل 850 حافلة كهربائيّة صينيّة الصنع من أصل 1,300 حافلة كهربائيّة يتألّف منها أسطول النقل العامّ، الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على التكنولوجيا الصينيّة.
بحسب التقارير، ادّعت الشركة الصينيّة المصنِّعة “يوتونغ”، ردّاً على طلب “روتر” توضيح سبب وجود الشريحة، أنّها تُستخدم فقط لتحديث البرامج عن بُعد وتقديم الدعم التقنيّ، ووصفتها بأنّها أداة صيانة للتشخيص وتحديث البرمجيّات الثابتة. لكنّ التحقيق الأمنيّ المستقلّ الذي أجرته “روتر” توصّل إلى نتيجة مختلفة: تبيّن أنّ الشريحة مرتبطة مباشرة بأنظمة الاتّصالات المركزيّة للحافلات، وهو ما يُتيح تبادل البيانات عن بُعد مع شبكات خارجيّة. زادت حقيقة أنّها كانت مخفيّة ومجهولة المصدر من مستوى الشكوك والمخاوف.
حذّر توماس رودن، رئيس جمعيّة “مراقبة النفوذ الصينيّ” وعضو مجلس حزب اليسار الاجتماعيّ، من مخاطر الاعتماد على الشركات الصينيّة
لتعزيز هذه الشكوك، نقل خبراء الأمن السيبرانيّ إحدى الحافلات إلى عمق منجم معزول داخل جبل قرب أوسلو، وتتبّعوا اتّصالات الشبكة الخاصّة بشريحة الـSIM، وقاموا باختبار اختراق داخل بيئة خالية تماماً من الإشارات الخارجيّة. كانت النتيجة صادمة ومثيرة للقلق، وفق ما أفادت به التقارير: إذ وجد خبراء الأمن السيبرانيّ النروجيّون أنّ منفذ الاتّصال قد يسمح لأطراف خارجيّة بالوصول عن بُعد إلى أنظمة تشغيل الحافلة، وتعطيلها أو السيطرة عليها عبر نظام التحكّم بالبطّاريّة. أثار ذلك مخاوف جدّيّة من احتمال تمكّن الشركة المصنّعة أو طرف ثالث من تعطيل جميع الحافلات في وقت واحد، أو استخراج بيانات تشغيل حسّاسة، أو التلاعب بأنظمة حيويّة.
جرس إنذار
دفع هذا الاكتشاف الرئيس التنفيذيّ لشركة “روتر” إلى وصف اللحظة بأنّها “جرس إنذار حقيقيّ”، معلناً وقف جميع الاتّصالات الرقميّة للحافلات فوراً، وإبلاغ الجهات الحكوميّة بالتفاصيل. اتّخذت هيئة النقل في النروج إجراءات وقائيّة شملت بناء جدران حماية، وتعديل آليّات الاتّصال بين الأنظمة والجهات المصنّعة، بما يتضمّن تأخير الإشارات الصادرة من الأجهزة الموصولة بالحافلات.
أعلنت الهيئة مراجعة وطنيّة لأمن سلسلة التوريد الخاصّة بالبنية التحتيّة للنقل، تشمل فحص المكوّنات الأجنبيّة الصنع المستخدمة في الأنظمة الحيويّة من حافلات وقطارات ومرافئ مع التركيز على التداعيات المحتملة على الأمن القوميّ.
بحسب التقارير الإعلاميّة، أكّد هذا الكشف ما كان يُعدّ في السابق تكهّنات بشأن مخاطر الأمن القوميّ المرتبطة بالبنية التحتيّة الصينيّة، إذ مثّل أدلّة ملموسة تدعم هذه المخاوف. لم يعد افتراضاً نظريّاً الخوفُ من أن تكون تلك الحافلات المنخفضة التكلفة بمنزلة “أحصنة طروادة” رقميّة.
في هولندا، حذّر مسؤولو الأمن من أنّ البنية التحتيّة الحديثة لم تعد ميكانيكيّة، بل أصبحت مُتحكَّماً بها برمجيّاً، ومتّصلة بالشبكة، وتعتمد على التحديثات
من القلق إلى فتح التّحقيقات
على الرغم من نفي السفارة الصينيّة في النروج وجود أيّ تهديد فعليّ متعمَّد، معتبرة أنّ ما يجري “تضخيم لمخاطر نظريّة”، مشيرة إلى أنّ الإصرار على تعميم الهواجس الأمنيّة قد “يضعف الابتكار ويعرقل التعاون الدوليّ”، أثارت تجربة النروج قلق دول أوروبيّة أخرى.
أطلقت الدنمارك تحقيقاً عاجلاً في أسطولها الخاصّ، الذي يضمّ ما يقرب من 500 حافلة كهربائيّة صينيّة الصنع. قال المدير التشغيليّ لشركة النقل العامّ الكبرى في الدنمارك “موفبا”، يبه غور: “اكتشفنا أخيراً أنّ الحافلات الكهربائيّة، مثل السيّارات الكهربائيّة، يمكن تعطيلها عن بُعد إذا كانت أنظمتها البرمجيّة مرتبطة بالإنترنت. هذه مشكلة تتعلّق بأيّ مركبة أو جهاز يحتوي على إلكترونيّات صينيّة الصنع”.

من جهته، حذّر توماس رودن، رئيس جمعيّة “مراقبة النفوذ الصينيّ” وعضو مجلس حزب اليسار الاجتماعيّ، من مخاطر الاعتماد على الشركات الصينيّة، متسائلاً: “كيف يمكننا التحدّث عن الاستقلاليّة والمرونة بينما يعتمد جزء حيويّ من بنيتنا التحتيّة على الصين؟”.
أمّا المملكة المتّحدة فقد أعلنت فتح تحقيق برلمانيّ مشابه، وسط تحذيرات سياسيّة من وجود ما وصفته النائبة البريطانيّة أليشيا كيرنز بـ”مفاتيح إيقاف مزدوجة الاستخدام” داخل البنية التحتيّة للنقل قد تسمح لجهة خارجيّة بـ”شلّ حركة النقل في مدن كاملة بضغطة زرّ”، وتجعل الأنظمة الأوروبيّة عرضة للتعطيل المتعمَّد في حال حدوث تصعيد سياسيّ أو صراع جيوسياسيّ.
في هولندا، حذّر مسؤولو الأمن من أنّ البنية التحتيّة الحديثة لم تعد ميكانيكيّة، بل أصبحت مُتحكَّماً بها برمجيّاً، ومتّصلة بالشبكة، وتعتمد على التحديثات. وقال أحد المشرّعين الهولنديّين: “نحن على بُعد تحديث برمجيّ واحد من كارثة”.
أمّا في ليتوانيا فأفاد مسؤولون بأنّ حذرهم من هذه المخاطر دفع بالمشرّعين إلى إصدار قانون يمنع الشركات الآتية من دول تُعدّ تهديداً أمنيّاً، وبينها الصين، من امتلاك وصول عن بُعد إلى محطّات الطاقة الشمسيّة الكبيرة.
تواجه الحكومات الأوروبيّة معادلة صعبة بين المخاطر الأمنيّة والفوائد الاقتصاديّة للاستثمارات والتكنولوجيا الصينيّة المنخفضة التكلفة
الأمن القوميّ في خطر
بحسب التقارير، أصدرت وكالات الأمن السيبرانيّ في الاتّحاد الأوروبيّ تحذيراً بعد تجربة النروج يفيد بأنّ المشكلة تتجاوز حدود النقل العامّ لتطال الأمن القوميّ الأوروبيّ بأسره، في ظلّ اعتماد القارّة المتزايد على التكنولوجيا الصينيّة التي تهيمن على العديد من أسواق البنية التحتيّة الرئيسة في معظم الدول الأوروبيّة.
يخشى خبراء من إمكان استغلال التحديثات البرمجيّة لتعطيل أجزاء واسعة من الشبكة الكهربائيّة الأوروبيّة، ولا سيما في ظلّ تقارير تشير إلى أنّ مكوّنات حيويّة مثل محوّلات الطاقة الشمسيّة، التوربينات الهوائيّة، أجهزة الاتّصالات، حتّى البنية التحتيّة الخاصّة بالسيّارات الكهربائيّة، يمكن تحديثها أو تعطيلها عن بُعد عبر برامج أو بوّابات اتّصال لا تخضع للسيطرة الأوروبيّة.
اليوم، تواجه الحكومات الأوروبيّة معادلة صعبة بين المخاطر الأمنيّة والفوائد الاقتصاديّة للاستثمارات والتكنولوجيا الصينيّة المنخفضة التكلفة، إذ بات واضحاً أنّ الحافلات، التي يُفترض أنّها وسيلة نقل آمنة، أصبحت في صلب نقاش دوليّ يعيد صياغة معادلة الأمن والاقتصاد والاعتماد التكنولوجيّ في أوروبا.
إقرأ أيضاً: السعودية ثالث قوة عالمية في الذكاء الصناعي؟
يطرح هذا النقاش، بحسب التقارير الإعلاميّة، سؤالاً محوريّاً: هل يمكن الاستمرار في الاعتماد على بنى تحتيّة رقميّة مستورَدة من دول تُصنَّف منافساً استراتيجيّاً؟ أم يتطلّب العصر الرقميّ مستوى جديداً من الاستقلال التكنولوجيّ يوازي في أهمّيّته السيادة التقليديّة والطاقة؟
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا
