في تحوُّل قد يعيد رسم الجغرافيا السياسيّة والاقتصاديّة لأوروبا في السنوات المقبلة، منحت مسوّدة خطّة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب للسلام في أوكرانيا الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين أكثر بكثير ممّا كان يتوقّع الحصول عليه عبر الحرب الدائرة بين موسكو وكييف.
تقوم الخطّة، الهادفة إلى إنهاء أطول نزاع مسلّح تشهده أوروبا منذ الحرب العالميّة الثانية، على “مقايضة سياسيّة كبرى” تترافق مع “هندسة اقتصاديّة”. إذ تمنح كييف عوائد اقتصاديّة ضخمة مقابل تخلّيها عن أجزاء واسعة من أراضيها واعتماد الحياد العسكريّ، فيما تُلزم موسكو بتنازلات محدودة مقابل إعادة دمجها التدريجيّ في المنظومة الاقتصاديّة الغربيّة. أمّا واشنطن فتحظى بفرصة لتكريس نفوذ اقتصاديّ وسياسيّ طويل الأمد في قلب أوروبا الشرقيّة.
صاغ المسوّدة المبعوث الأميركيّ الخاصّ ستيف ويتكوف ونظيره الروسيّ كيريل دميترييف خلال أسابيع، وأفادت “بلومبرغ” أنّ موسكو شاركت في كتابة أجزاء أساسيّة منها.
ابتلاع أراضٍ أوكرانيّة شاسعة
قد تحصل روسيا، التي فشلت في إخضاع أوكرانيا عسكريّاً، عبر واشنطن على مكاسب استراتيجيّة أوسع ممّا حلمت به. يقوم جوهر الخطّة على تخلّي كييف رسميّاً عن مقاطعتَي دونيتسك ولوغانسك في الدونباس لروسيا، مع اعتراف أميركيّ وغربيّ بـ”حكم الأمر الواقع” للسيطرة الروسيّة على شبه جزيرة القرم والمناطق الخمس التي ضمّتها موسكو عام 2014. يتمّ تثبيت خطوط التماسّ الحاليّة في خيرسون وزابوريجيا باعتبارها مناطق فاصلة.
هكذا تكسب روسيا ما يقارب 2,300 كلم² إضافيّة، أي ما يعادل تقريباً مساحة لوكسمبورغ، من دون إطلاق رصاصة واحدة، تُضاف إلى نحو 115 ألف كلم² فرضت سيطرتها عليها، أي نحو 20% من الأراضي الأوكرانيّة.
في المقابل، تعيد موسكو مساحات محدودة في خاركيف ودنيبروبتروفسك وسومي وتشيرنيهيف، وتضمن لكييف حرّية استخدام نهر دنيبر تجاريّاً، وتسهيل مرور الحبوب عبر البحر الأسود بلا عوائق.
تطالب الخطّة روسيا بسنّ قانون يحظر الاعتداء على أوروبا وأوكرانيا
تثبيت حياد أوكرانيا
بعدما كانت تطمح أوكرانيا إلى عضويّة الناتو والاتّحاد الأوروبيّ، ستجد نفسَها دولةً محايدة ذات سيادة منقوصة. بموجب الخطّة ستكون كييف خارج “الناتو” نهائيّاً، عبر تعديل دستورها لمنع الانضمام إلى “الحلف الأطلسيّ”. سيعدّل “الناتو” نظامه الأساسيّ لإقرار عدم قبول كييف عضواً في المستقبل. وتتعهّد دول الحلف بعدم نشر قوّاتها داخل الأراضي الأوكرانيّة. وسيتمّ تحديد حجم الجيش الأوكرانيّ بـ600 ألف جنديّ.

في المقابل، تحصل كييف على ضمانات أمنيّة أميركيّة ودوليّة، تتعهد واشنطن بموجبها بالردّ العسكريّ الحاسم في حال شنّت روسيا أيّ هجوم جديد، مع إعادة فرض العقوبات فوراً.
إعادة إعمار ضخمة بـ200 مليار دولار
اقتصاديّاً، تتضمّن الخطّة واحدة من أضخم حزم الإعمار في تاريخ أوروبا، وتشمل:
– استثمار 100 مليار دولار من الأصول الروسيّة المجمّدة في مشاريع أميركيّة داخل أوكرانيا و100 مليار دولار إضافيّة من الاتّحاد الأوروبيّ.
– إنشاء صندوق دوليّ لتطوير البنية التحتيّة للطاقة.
– إعادة تشغيل الأنابيب.
– إعادة إطلاق قطاع التعدين والموارد الطبيعيّة.
– تمويل من البنك الدوليّ لإعادة البناء.
– تشغيل محطّة زابوريجيا النوويّة تحت إشراف الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية، مع تقاسم إنتاجها الكهربائيّ بالتساوي بين موسكو وكييف.
عودة روسيا إلى مجموعة الثّماني
تتضمّن الخطّة مساراً يقضي بـ:
– إعادة موسكو إلى النظام الماليّ والاقتصاديّ الدوليّ.
– مناقشة رفع العقوبات الغربيّة على مراحل.
– عودة روسيا إلى مجموعة الثماني G8.
– عقد اتّفاق تعاون اقتصاديّ طويل الأجل مع الولايات المتّحدة.
– إنشاء آليّة أمنيّة أميركيّة – روسيّة مشتركة لضمان الالتزام بالاتّفاق.
– تجميع الأصول الروسيّة المجمّدة في صندوق استثماريّ تحصل واشنطن على جزء من أرباحه.
تطالب الخطّة روسيا بسنّ قانون يحظر الاعتداء على أوروبا وأوكرانيا.
باختصار ستكسب موسكو الشرعيّة لما حقّقته عسكريّاً بلا تنازلات مؤلمة. ستضمن واشنطن لبوتين خروجاً مشرّفاً من الحرب، مع الحفاظ على مكاسب استراتيجيّة لا يمكن تحقيقها عسكريّاً من دون كلفة هائلة.
قد تنهي الخطّة الحرب فعلاً، لكنّها تُدخل أوروبا في مرحلة طويلة من إعادة تشكيل خارطة النفوذ
زيلينسكي بين خيارين أحلاهما مرّ
على عكس موسكو التي أبدت ارتياحاً للمسوّدة، واجهت كييف الخطّة برفض واضح. يجد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه أمام معادلة وجوديّة: خسارة ربع أراضي بلاده أو خسارة أهمّ حلفائه، الولايات المتّحدة.
قال إنّ أيّ خطّة مقبولة يجب أن توفّر “سلاماً حقيقيّاً يحفظ الكرامة”. لكنّ ترامب واصل ضغوطه القويّة على كييف، مانحاً إيّاها مهلة حتّى عيد الشكر لقبول الخطّة، معتبراً إيّاها “قابلة للنقاش وليست نهائيّة”.
رفض كييف يعني خسارة الدعم الأميركيّ وترجيح الكفّة الروسيّة عسكريّاً وسياسيّاً، وهو ما قد يجعلها تواجه تسوية أسوأ في المستقبل، بينما قبول زيلينسكي بالتنازل الإقليميّ سيُنظر إليه داخليّاً كضربة لشرعيّته وسيكلّفه ذلك ثمناً سياسيّاً باهظاً.
نهاية الحرب أم بداية نظام أوروبيّ جديد؟
أثار المقترح انتقادات في العالم حتّى في داخل الولايات المتّحدة، حيث وصف أعضاء في الكونغرس بنود الخطّة بأنّها تشكّل “قائمة رغبات روسيّة” أكثر منها مدخلاً عادلاً إلى السلام.
أمّا أوروبا فكانت الأكثر غضباً. إذ اجتمع قادة الاتّحاد الأوروبيّ على هامش قمّة مجموعة العشرين في جوهانسبرغ، وأصدروا بياناً مشتركاً أكّدوا فيه أنّ “الحدود لا ينبغي أن تتغيّر بالقوّة”، ورفضوا تقييد قدرات الجيش الأوكرانيّ، وجادلوا في أنّ أيّ التزامات تتعلّق بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أو الاتّحاد الأوروبيّ يجب أن تحصل على موافقة من هذه المؤسّسات أوّلاً.
وصف رئيس الوزراء البريطانيّ السابق بوريس جونسون الخطّة بأنّها “خيانة أميركيّة”، بينما اعتبر الرئيس البولنديّ كارول نافروتسكي أنّها “خطّة استسلام صاغها بوتين ووقّعتها واشنطن”.
تخشى أوروبا من إعادة دمج روسيا من دون ضمانات كافية لسلوكها المستقبليّ، ومن تولّي الولايات المتّحدة منفردةً الترتيبات الأمنيّة والاقتصاديّة في شرق أوروبا. بمعنى آخر، تشعر أوروبا أنّ واشنطن تعيد صياغة مستقبل القارّة من دونها.
سيكون الرابح الأكبر الولايات المتّحدة، التي تجد في هذه الخطّة فرصة لترسيخ دورها ضامنةً للأمن الأوروبيّ
لن يقتصر نجاح الخطّة، إن حصل، على وقف الحرب، بل سيعيد تشكيل:
– خريطة النفوذ في أوروبا الشرقيّة.
– مستقبل العقوبات الاقتصاديّة.
– حركة التجارة عبر البحر الأسود.
– علاقة موسكو ببكين.
– أسواق الطاقة العالميّة.
إقرأ أيضاً: واشنطن تعيد صياغة مقاربتها السّودانيّة؟
في المحصّلة، سيكون الرابح الأكبر الولايات المتّحدة، التي تجد في هذه الخطّة فرصة لترسيخ دورها ضامنةً للأمن الأوروبيّ، والإمساك بمفاتيح أوروبا الشرقيّة، والهيمنة على مواردها، لاسيما المعادن النادرة، وإضعاف النفوذ الصينيّ في روسيا عبر إعادة إدماج موسكو في الاقتصاد الغربيّ ومحاولة كسر محور “موسكو – بكين”.
قد تنهي الخطّة الحرب فعلاً، لكنّها تُدخل أوروبا في مرحلة طويلة من إعادة تشكيل خارطة النفوذ.
