جنّت إسرائيل يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 بطريقة لم تحدث من قبل. حتّى في حروبها الكبرى التي خاضتها ضدّ العرب، وبالأخصّ في عامَي 1967 و1973، لم تكن مسيَّرة بنزعة الانتقام. في تلك الحروب كانت العقيدة العسكريّة هي الأساس، وكانت إسرائيل مطمئنّة إلى أنّ جزءاً من العالم سيقف معها ومن ورائها. أمّا حين تمّ اختراق حدودها بمفاجأة صاعقة أدّت إلى مقتل ألف وخمسمئة من جنودها ومواطنيها واختطاف أكثر من 250 من رعاياها، فإنّ ذلك حدثٌ لم تملك أن تواجهه وهي متماسكة بطريقة عقلانيّة.
إذا كان العالم كلّه قد تعاطف مع إسرائيل منذ اللحظة الأولى، لم تجد حكومتها أمامها سوى العنف المبالغ فيه لكي تدفع عنها تهمة الإهمال. لقد كان في الإمكان تدارك ما حدث في حينه من غير وقوع تلك الخسائر الكبيرة في تاريخ إسرائيل، لو أنّ الأجهزة الاستخباريّة كانت فعلاً على تلك المهارة التي عُرفت عنها.
“طوفان الأقصى”، وهو الاسم الذي اختارته حركة حماس لعمليّتها، كشف عيوباً لا تحبّ إسرائيل أن يراها أحد. وعلى أساسها تتمّ مساءلة إسرائيل: “أين كانت أجهزتك الاستخباريّة، وهي التي تملك جواسيس كثراً في الداخل الفلسطينيّ؟”.
جنّت إسرائيل يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 بطريقة لم تحدث من قبل. حتّى في حروبها الكبرى التي خاضتها ضدّ العرب، وبالأخصّ في عامَي 1967 و1973
منذ اللحظة الأولى كان الردّ الإسرائيليّ مجنوناً. ذلك ما لم يأخذه وكلاء إيران في المنطقة بالاعتبار حين شاركوا في الحرب انطلاقاً من شعار وحدة الساحات، وهو شعار أرادت إيران من خلاله أن تثبت أنّها صارت القوّة الإقليميّة التي يجب التفاوض معها من أجل أن تضمن إسرائيل أمنها. غير أنّ النتائج سارت في اتّجاه معاكس. لقد مُحيت الخرافة التي صنعتها إيران عبر أكثر من أربعين سنة وأنفقت عليها المليارات، في لحظة خطأ سيتمّ الاعتراف به بعد سنوات. لم تكن القضيّة الفلسطينيّة جزءاً من سياق ذلك الخطأ.
الشّرق الأوسط بين وباءين
في ردّها على “طوفان الأقصى” ضربت إسرائيل كلّ قواعد الاشتباك. ذلك ما صار يردّده الكثيرون، ومن ضمنهم قيادات عسكريّة يُفترض أنّها على دراية بما تخبّئه إسرائيل من خطط لحماية أمن مواطنيها. ولكنّ الأمر تخطّى مسألة الدفاع عن النفس إلى ممارسة دور إقليميّ، كان البعض يعتبره جزءاً من الخيال الصهيونيّ، فإذا به يتحوّل إلى واقع.
عن طريق الحرب المفتوحة، التي لا تقف عند حدود ردود الأفعال المناسبة في زمان ومكان محدّدين، نجحت إسرائيل في توسيع دائرة الحرب لتشمل إيران، التي لم تضع في حسابها أنّها ستُضرب في الوقت نفسه الذي تنهار فيه سدودها المقاوِمة، التي تبيّن أنّها كانت على استعداد للتضحية بها مقابل أن تستمرّ في بناء مشروعها النوويّ الذي هو ضمانة مستقبلها، الذي سيكون عبارة عن مظلّة لحروب لا تنتهي.
لأنّ إسرائيل لم تكن تحارب وحدها، ولأنّها أيضاً كانت قد وجدت في الدعم الغربيّ غير المحدود ضوءاً أخضر يسمح لها بالانتقال من مرحلة تصفية الحسابات إلى مرحلة التخطيط لشرق أوسط يكون تحت الوصاية، بما يشكّل بديلاً للشرق الأوسط الجديد الذي كانت الولايات المتّحدة تفكّر فيه بطريقة غامضة. لم يدعم الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب إسرائيل في حرب الإبادة التي استمرّت سنتين فحسب، بل كان سعيداً كما أظنّ لأنّ إسرائيل صنعت نموذجاً مجسّداً للفكرة الأميركيّة التي تعرّضت للتشظّي عبر أكثر من ثلاثين سنة، وبالضبط بعد حرب تحرير الكويت عام 1991.
ليس من اليسير أن تُهدي دولة صغيرة مثل إسرائيل خرائط مستقبل سياسيّ لواحدة من أكثر المناطق تعقيداً في العالم إلى الدولة العظمى في عصرنا. ومن سوء حظّ المنطقة أن يقع مصيرها بين وباءين: وباء إيران ووباء إسرائيل. لست هنا في صدد التعليق على سؤال لا معنى له، وهو: “من انتصر على الآخر؟”، فذلك سؤال لا يفكّر فيه الخاسرون.
ليس مهمّاً هنا التعويل على موقف إيران التي لا تزال تتاجر بعقول أتباعها العقائديّين الذين لا يصدّقون أنّ النصر لن يكون من نصيبها
العرب هم أصحاب القضيّة
بعد كلّ الذي حدث في المنطقة عبر السنتين الماضيتين، سيكون مستقبل غزّة هو مقياس المعادلة التي ستدور في فلكها دول المنطقة، بما فيها تلك الدول التي لم تكن معنيّة بالحرب بشكل مباشر. فبعدما تمّ تجريد إيران ممّا استولت عليه في غزّة ولبنان وسوريا، لم يعد في إمكانها أن تعتبر العراق رهاناً رابحاً في أيّة جولة للمفاوضات التي أعتقد أنّها لن تُعقد إلّا بعد أن تُشفى إسرائيل من جنونها.
لن يحدث ذلك في وقت قريب. صحيح أنّ إسرائيل تخلّصت من أعدائها المباشرين حين فرضت عليهم شروط الاستسلام عن طريق إملاءات دوليّة وجدوا فيها فرصتهم للنجاة، غير أنّها لن تتخلّى عن حربها المفتوحة ما دامت تلك الحرب تجلب لها الكثير من المكتسبات التي لم يكن الحصول عليها هيّناً لولا ما حدث في السابع من أكتوبر.
إقرأ أيضاً: المحور السنّي يقلق إسرائيل
ليس مهمّاً هنا التعويل على موقف إيران التي لا تزال تتاجر بعقول أتباعها العقائديّين الذين لا يصدّقون أنّ النصر لن يكون من نصيبها. ما يهمّ فعلاً هو الموقف العربيّ الذي سيكون من شأنه أن يحدّد شكل الدولة الفلسطينيّة التي اعترف بها العالم في سياق حلّ الدولتين. تلك نقطة حسّاسة للعرب الموزّعين بين خيارين سلميَّين: الأوّل يفرض قيام الدولة الفلسطينيّة شرطاً للتطبيع، والثاني أخذ بالتطبيع مبدأً من أجل الدفع في اتّجاه قيام تلك الدولة.
ربّما لا تزال إسرائيل مدفوعة بنشوة انتصارها غير قادرة على فهم الموقف العربيّ المتريّث، غير أنّ الفهم الأميركيّ سيكون ضاغطاً، وفي الوقت نفسه لن يخيّب آمال إسرائيل في نجاتها من الفخّ الإيرانيّ. فالعرب هم الأولى في تبنّي قضيّتهم في فلسطين والدفاع عنها، وليست رغبتهم في السلام شعاراً مؤقّتاً.
