مقتدى الصدر صمّام أمان النظام في العراق

مدة القراءة 5 د

لا معارضة سياسية في العراق، على الرغم من أن أي استقصاء صحفي يُجرى بطريقة عشوائية في شوارع وأسواق بغداد والمدن الرئيسة والثانوية الأخرى، لا بد أن يكشف عن حجم تذمّر العراقيين من النتائج المزرية التي انتهت إليها أوضاعهم المعيشية والخدمية بعد أكثر من عشرين سنة من قيام دولة العراق الجديد على أنقاض دولة العراق الحديثة التي أطفأت الشمعة التسعين في عمرها يوم وضع الأميركيون خاتمة لها.

 

العراق من وجهة نظر أبنائه دولة رثّة، تحكمها طبقة فاسدة يرتبط بقاؤها بالاستمرار في تمزيق النسيج المدني الاجتماعي من خلال العودة إلى أساليب الحكم التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل اختراع مفهوم الدولة، هناك حيث تشكّل التكتلات العشائرية والطائفية مركز الثقل في تصريف شؤون الناس. ولأن العراقيين، وبالأخص من عاصر منهم مراحل تبلور مشروع المواطنة في دولة حديثة، يدركون جيدًا أن كل ما يحدث من حولهم ما هو إلا عمليات سطو منظّم على مستقبل أجيالهم، فإنهم يجدون لنفورهم من العراق الجديد ما يبرّره. ذلك عراقٌ، من وجهة نظرهم، لا مستقبل له.

الصدر، بصريح العبارة، هو داعية إصلاح مضلِّل. وهو، من خلال تلك الصفة، إنما يلعب دورًا خطيرًا في درء الخطر الشعبي عن النظام السياسي الفاسد

فالعراق كما يعرفونه كان قد نفض عن كاهله في سبعينات القرن الماضي عار الفقر، وفي الوقت نفسه كان قد تخلّص من أمية مواطنيه، وهو البلد الذي كان فيه التعليم إلزاميًا ومجانيًا، كما أن كل فرد عراقي لم يكن مضطرًا لدفع فلس واحد من أجل التأمين الصحي الذي كان حقًا لا يُناقش. العراق الذي يستورد الآن حتى البصل كان قد وصل في واحدة من أعظم مراحله إلى درجة الاكتفاء الغذائي. في ظل تلك المعطيات، ألا يمكن توقّع أن يكون الشعب العراقي معارضًا وهو المحروم من الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها الكهرباء ومياه الشرب ومشاريع الصرف الصحي، في ظل انهيار قطاعي التعليم والصحة؟

لكن وصاية مقتدى الصدر، باعتباره زعيمًا لأكثرية مهمّشة، جعلت منه المعارض الرسمي الوحيد الذي يحق له التصرّف بأصوات أتباعه.

المقاوم الإيراني الذي أزعج الأميركيين

لمقتدى الصدر إذًا وظيفته في سياق معادلة الإبقاء على النظام السياسي الذي أسّسته سلطة الاحتلال الأميركي ورعته إيران لتستفيد منه اقتصاديًا في ظل الحصار الأميركي المفروض عليها. سيُقال إن الصدر ارتكب أخطاء بسبب مراهقته السياسية حين تسبّب بخراب النجف عام 2004 في حرب شنّها الأميركيون من أجل فرض سيطرتهم. ولكن تلك الحرب لم تكن لتقع لولا أن إيران كانت قد قرّرت أن تؤكّد للأميركيين أنها قادرة على إزعاجهم.

بالنسبة للأميركيين والإيرانيين فإن مقتدى الصدر يشكّل صيدًا ثمينًا، فهو الشكل المثالي لمعارضة لا يمكن التشكيك بنسبها. لذلك يمكن توظيفها في إطار معادلة التوافق الأميركي ـ الإيراني في العراق.

كان لمقتدى الصدر وزاراته في الحكومات السابقة، وهي الوزارات الأكثر فسادًا (الكهرباء والصحة على سبيل المثال)، غير أن الصدر المعارض هو الأكثر نفعًا. ذلك لأنه قد تمكن من منع كتلة بشرية لا يقل عدد أفرادها عن السبعة ملايين من التعبير عن رفضهم للنظام السياسي. بهذه الطريقة، يكون الصدر هو المسؤول عن حماية النظام القائم وإعادة إنتاج أشكاله بما يوهم الآخرين بأن ذلك النظام يقوم بتجديد حيويته من موسم انتخابي إلى آخر.

وصاية مقتدى الصدر، باعتباره زعيمًا لأكثرية مهمّشة، جعلت منه المعارض الرسمي الوحيد الذي يحق له التصرّف بأصوات أتباعه

عن طريق منع أتباعه من المشاركة في الانتخابات يحارب الصدر الفاسدين. ما معنى ذلك؟

ما يقوم به الصدر هو محاولة امتصاص غضب الفئات المهمّشة والمحرومة التي تتسع دوائرها مع مضي الوقت الضائع. وكعادته، فإن الصدر وقد أدخل أتباعه ومناصريه في متاهات متلاحقة عنوانها الإصلاح من خلال الحرب على الفساد، لم يقدّم أي دليل على أن تياره يسعى، ومن خلال أساليب وطرق قانونية، إلى مساءلة القائمين على إدارة شبكات الفساد التي تتداخل أحيانًا مع المؤسسات الرسمية فلا يمكن التعرف على الحدود التي تفصل بين الجانبين، كما هو حال المصارف الحكومية والمصارف الأهلية وشركات التحويل والصرافة التي يخترقها جميعًا خيط سحري اسمه الدولار.

إقرأ أيضاً: خديعة الحكم الشّيعيّ في العراق

فالصدر، ومنذ سنوات طويلة، يتحدّث عن الفساد ويهدد الفاسدين من غير أن يفعل شيئًا ملموسًا يكسبه قدرًا ولو ضئيلًا من المصداقية.

الصدر، بصريح العبارة، هو داعية إصلاح مضلِّل. وهو، من خلال تلك الصفة، إنما يلعب دورًا خطيرًا في درء الخطر الشعبي عن النظام السياسي الفاسد الذي هو الآن في أكثر أوضاعه اطمئنانًا من جهة شعوره بأن الإرادة الشعبية الناقمة قد تم احتواؤها ولم تعد قادرة على اجتراح مفاجآت كتلك التي حدثت في تشرين الأول/أكتوبر عام 2019 يوم أسقط العراقيون حكومة عادل عبد المهدي.

مواضيع ذات صلة

هل يستميل لبنان فرنسا وأميركا في التّفاوض؟

تتوالى الاستحقاقات على لبنان وما سينجم عنها في الأسابيع المقبلة. بين ثناياها وتواريخها  يختبر اللبنانيّون مراهنتَين على: – أن تصرّ واشنطن على تل أبيب كي…

ترامب “يستدعي” نتنياهو لفرض المرحلة الثّانية

لا يبدو أنّ المرحلة الثانية من خطّة دونالد ترامب ستنطلق قبل زيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن، المتوقّعة في نهاية الشهر الحالي. من السذاجة الاعتقاد أنّ التأخير…

أجواء برّي: تعديل اتّفاق الهدنة… وقف النّار أوّلاً

أفسح تعيين مفاوض مدنيّ هو السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد العسكريّ إلى اجتماعات لجنة “الميكانيزم” في المجال أمام البحث في حلول سياسيّة ممّا كان…

بهشلي – بارزاني: خطّان متوازيان… يلتقيان؟

شهدت العلاقات بين أنقرة وإربيل خلال الأعوام الأخيرة تقدّماً ملموساً تجاوز الكثير من العقبات، مدفوعةً بتقاطع المصالح وبناء قنوات ثقة متدرّجة. لكنّ  “حادثة شرناق” وضعت…