تُحاول طهران وواشنطن العودة إلى اتفاقٍ نوويّ غير مكتوب. هذا هو آخر المُقترحات التي يدرسها صنّاع القرار في واشنطن وطهران. فالنّظام الإيرانيّ ليسَ على عجلة من أمره، فيما إدارة جو بايدن مُكبّلة بالمُعارضة الجمهوريّة وبعض الدّيمقراطيين، على وقع مُسيّرات إيران التي انهمَرَت على العاصمة الأوكرانيّة كييف بيدٍ روسيّة، بالإضافة إلى سلوكِ طهران في الشّرق الأوسط من مياه الخليج العربيّ إلى البحر الأبيض المُتوسّط.
وكان التفاوض الأميركيّ – الإيرانيّ قد أحرز تقدّماً ملحوظاً عكسَ ذاته في أروقة الدّبلوماسيّة من أوروبا إلى العالم العربيّ فروسيا. تفاصيل ما أحدثه هذا التقدّم لم تكن بلا أكلاف على الإطلاق، ذلك أنّ عوائده كانت للولايات المُتحدة الأميركيّة وحدها.
البدء في الوقائع المُتراكمة دبلوماسيّاً بلوغاً لما هي أنشطة عسكريّة وأمنيّة بين واشنطن وطهران من جهة أخرى، كانَ مع إعلان الجانبيْن التّوصّل إلى اتفاقٍ للإفراج عن مُعتقلين يحملون الجنسيّة الأميركيّة في إيران في مقابل الإفراج عن مليارات مُجمّدة لإيران، تضاربت الأنباء حول مصدرها، هل هي من عائدات النّفط لدى مصارف كوريا الجنوبيّة؟ أم أنّ مصارف اليابان والعراق ستحوّل مليارات إيران هي الأخرى؟
المُعتقلون مُقدّمة للنّوويّ؟
انهمَكَت الإدارة الأميركيّة طوال الأسبوع الماضي في تبرير أنّ اتفاق الإفراج عن المُعتقلين لن يُغيّر من سياستها تجاه إيران وأنشطتها في المنطقة. خرجَ وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن ليقول إنّ بلاده مُلتزمة بسياسة “الرّدع والدّبلوماسيّة وعدم حصول إيران على سلاحٍ نوويّ، وتحميلها عدم الاستقرار في الشّرق الأوسط وتمويل روسيا بالمُسيّرات لاستعمالها في حربها ضدّ أوكرانيا”.
يشيرُ مصدر عراقيّ رفيع المستوى لـ”أساس” إلى أنّ الولايات المُتحدة أبلغت الجانب العراقيّ أنّ جيشها ليس باستطاعته العمل “كحارسٍ للحدود”، لكنّ انفلات الحدود بين العراق وسوريا ينبغي أن يتوقّف بأسرع وقتٍ مُمكن
تزامن تبرير بلينكن مع انقسامٍ في الموقف من الصّفقة بين أعضاء الكونغرس. رحّبَ الدّيمقراطيّون بها على اعتبارها “خطوة في الاتجاه الصّحيح”. لكنّ زملاءهم الجمهوريّين كانَ لهم رأي آخر. إذ وقّع 26 مُشرّعاً جمهوريّاً في مجلس الشّيوخ على رسالة إلى وزيرَيْ الخارجيّة والخزانة أعربوا فيها عن قلقهم من أنّ إدارة الرّئيس جو بايدن تُحاول تجاوز الكونغرس لتعويض إيران ماليّاً في محاولة لإعادة التّفاوض معها على بديل للاتفاق النّوويّ “المشؤوم” الذي وُقِّعَ في 2015.
الرّأي الجمهوريّ واضحٌ في أنّ إدارة بايدن تُريدُ من صفقة التّبادل الذّهاب إلى ما هو أبعد منها، وهو عقد اتفاق نوويّ. هذا ما أشارَ إليه أيضاً الباحث في معهد “كارنيغي” آرون ديفيد ميلر في مقالةٍ نشرها في “فورين بوليسي“، إذ اعتبَر أنّ توصّل إدارة بايدن إلى تفاهمات تُخفّف من التّوتّر مع طهران، بما فيها “ما يخصّ برنامجها النّوويّ هو تصرّف ذكيّ وإن لم يحمل تغييراً جذريّاً”.
أمّا نائب الرّئيس السّابق مايك بنس فقد اعتبرَ أنّ بايدن دفعَ “أكبر فدية بالتّاريخ الأميركيّ للملالي في طهران”.
هذه القراءة للموقف في عاصمة القرار هي مُقدّمة لقراءة ما يحمله الشّرق الأوسط في هذا الخصوص.
التّعزيزات في المنطقة.. تفاوض بالنّار؟
قبل أسبوعٍ من اليوم، وصلت تعزيزات عسكريّة أميركيّة إلى مياه الخليج العربيّ، بعدما كانت الإدارة الأميركيّة قد خفّفت من وجودها العسكريّ هُناك قبل أشهر بهدف التّركيز على منطقة شرق آسيا حيثُ النّفوذ الصّيني المُتنامي، وأوكرانيا حيثُ الحرب بين كييف وموسكو.
أدرَكَت الولايات المُتحدة أنّ تخفيف وجودها في الشّرق الأوسط سيتركُ فراغاً تملؤه الصّين وروسيا وإيران. فسارَعَت إلى العودة العسكريّة إلى المنطقة على متن السّفن الحربيّة التي تحمل 3,000 جنديّ من مُشاة البحريّة (المارينز) تحت ذريعة ردع القرصنة الإيرانيّة بحسب ما ذكرَ المُتحدّث باسم وزارة الدّفاع الأميركيّة الجنرال بات رايدر.
وفي قراءة أوسع للمشهديّة، التي تشمل التحرّكات العسكريّة الأميركيّة في سوريا والعراق، التي تبعدُ حدودهما مئات الكيلومترات عن مياه الخليج العربيّ، وعلى الرّغم من نفي البنتاغون أنّ التحرّكات العسكريّة الأميركيّة تهدف إلى قطع طريق طهران – بيروت عبر معبر القائم – البوكمال على الحدود السّوريّة العراقيّة، إلّا أنّه في الوقت عينه قال رايدر في حديث للمونيتور إنّ مسؤولية ضبط الحدود تقع على عاتق الحكومة العراقيّة.
لا ينبغي إهمال اللوبيّ الإسرائيليّ والموقف العربيّ من الاتفاق النّوويّ في حال لم تلتزم إيران بردع أنشطة أذرعها في المنطقة، من اليمن إلى لبنان
ترافق هذا التصريح مع إعادة انتشار آلاف الآليّات العسكريّة الأميركيّة في محيط مطار بغداد الدّوليّ وغرب العراق حيثُ الطّريق نحو سوريا. وتزامن أيضاً مع اجتماعات عقدها مسؤولون عسكريّون أميركيّون مع ضبّاط في الجيش العراقيّ ومسؤولين من الحكومة العراقيّة، ومع إرسال إيران لتعزيزات عسكريّة إلى خطوط التّماسّ مع الفصائل المدعومة من الولايات المُتحدة في شرق وشمال شرق سوريا من التّنف إلى ضفّة نهر الفُرات. ولم تكن التعزيزات يتيمةً إذ سارَع قائد قوّة القدس في الحرس الثّوريّ إسماعيل قاآني إلى زيارة المنطقة والوقوف على الخطوط الأماميّة في رسالةٍ أنّ إيران جاهزة هي الأخرى للقتال إلى أبعد الحدود في حال مسّت الولايات المُتحدة مُباشرة أو بالوكالة بخطوط إمدادها، وتحديداً معبر البوكمال.
في السياق، يشيرُ مصدر عراقيّ رفيع المستوى لـ”أساس” إلى أنّ الولايات المُتحدة أبلغت الجانب العراقيّ أنّ جيشها ليس باستطاعته العمل “كحارسٍ للحدود”، لكنّ انفلات الحدود بين العراق وسوريا ينبغي أن يتوقّف بأسرع وقتٍ مُمكن.
تؤكّد الأجواء في بغداد أنّ واشنطن تُريد التلويح بقطع طريق طهران – بيروت في مقابل أن تحصل على تعهّدٍ إيرانيّ بوقف تزويد روسيا بالمُسيّرات وقطع الغيار، وهذا ما دفع وزير الخارجيّة الإيرانيّ حسين أمير عبد اللهيان والمُتحدّث باسم الخارجيّة ناصر كنعاني إلى نفي تزويد روسيا بطائرات مُسيّرة لاستخدامها ضدّ أوكرانيا، وتكرار موقف إيران من الحرب الذي يدعو إلى “ضمان سلامة الأراضي ومعارضتها سياسة الضّمّ”.
أما في طهران فليسَ هناك عجلة للعودة إلى الاتفاق النّوويّ، على عكس إدارة بايدن. تنتظر طهران جلاء صورة الانتخابات الرّئاسية الأميركيّة في خريف 2024، إذ تكمن الخشية في أن تواجه إيران ترامب مرّةً جديدة، وأن ينسحبَ من الاتفاق في حال لم تضمن إدارة بايدن عدم الانسحاب الأميركيّ من الاتفاق.
أمّا الإدارة الأميركيّة فتريد من طهران “هديّة” انتخابيّة، لا يبدو أنّها قريبة، مع افتقارها إلى أيّ إنجازٍ دبلوماسيّ على صعيد السّياسة الخارجيّة. فقد يجدُ فريق بايدن، خصوصاً وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن ومُستشار الأمن القوميّ جايك سوليفان، هذه الضّالّة لدى طهران. لكنّ العوائق في واشنطن قد تكون أكبر من تلكَ التي في طهران.
تواجه الإدارة الأميركيّة معارضةً جمهوريّة شرسة للاتفاق النّوويّ مع إيران. وقد زادَ قمع النّظام الإيرانيّ للتظاهرات التي اندلعت الخريف الماضي من صعوبة إقناع المُشرّعين الجمهوريين وحتّى بعض الدّيمقراطيين بالمُصادقة على أيّ اتفاقٍ مع إيران لا يتضمّن التزاماً من إيران بـ”حقوق الإنسان”، بالإضافة إلى التزامٍ واضحٍ من طهران بالامتناع عن تزويد روسيا بالمُسيّرات في حربها ضدّ الغرب.
إقرأ أيضاً: السّعوديّة: المبادرة العربيّة مقابل التطبيع
كذلك لا ينبغي إهمال اللوبيّ الإسرائيليّ والموقف العربيّ من الاتفاق النّوويّ في حال لم تلتزم إيران بردع أنشطة أذرعها في المنطقة، من اليمن إلى لبنان.
كلّ ما سلف يجعل العودة إلى الاتفاق النّوويّ شبه مُستحيلة، لكنّ الوساطة العُمانيّة – القطريّة بين أميركا وإيران وصلَت إلى مُقترحٍ عماده أن تلتزم إيران ببنود اتفاق 2015 في مُقابل أن تخفّف إدارة بايدن من قيودها على النّظام الإيرانيّ من دون توقيع للاتفاق، أي تفاهم غير مكتوب إلى حين جلاء صورة من سيحكم البيت الأبيض حتّى 2024..
وللتفاوض تحت النّار تتمّة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@