دنيس روس بعد هنري كيسنجر هو ثاني أقدم من تدخّل في المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وهو كتب عام 2005 كتابه الشهير: السلام المفقود الذي حمّل فيه باراك وأولمرت جزءًا من المسؤولية عن فشل مبادرة السلام الأخيرة أيام كلينتون. وهو استطاع أن يفعل ذلك لأنه يهودي مثل معظم المسؤولين الأميركيين الذين أُرسلوا مبعوثين أو مفاوضين. وعندما تسأل الأميركيين: لماذا هذه الغلبة في مفاوضات ينبغي أن يكون المشاركون فيها وسطاء محايدين؟! يقولون لك: حتى يثق الإسرائيليون ويرضوا بالمشاركة! ألا ترون كيف اضطر بلينكن في حرب غزة للقول إنه يهودي حتى لا يظنوا فيه تخاذلاً أو تردّداً؟ أما الفلسطينيون فلا بأس بعدم مراعاة حساسياتهم لأنهم مضطرون!
لماذا دنيس روس؟
المهمّ، لقد بدأت الحديث عن دنيس روس وميزاته لأنه كتب قبل يومين مقالةً لنيويورك تايمز ما قرأت أغرب ولا أقلّ منطقاً منها. فهو لا يؤيد وقف إطلاق النار رغم الظلم الواقع بالمدنيين إلاّ بعد التأكد من القضاء على حماس. فإسرائيل في “خطر وجودي” ما دامت حماس والتنظيمات الشبيهة موجودة ولسببين: الإسلاموية الجهادية، والتبعية لإيران. وما دام الأمر كذلك فلا ينبغي الضغط على إسرائيل بشأن الغزو البرّي إذا كانت تراه ضرورياً، وإن كان ينبغي الاهتمام بمقادير الخسائر الإسرائيلية وبمديات التأثير على الرهائن (هو لا يقول: الأسرى)! وهو أيضاً لا يرى الضغط على نتانياهو وسؤاله ماذا بعد غزة؟ كما لا يرى إحراجه بشأن التحوّل للحلّ السياسي أو دبلوماسية المفاوضات، كلّ ذلك مؤجّل إلى حين إزالة الخطر الذي يعتبره دنيس روس وجودياً. وهو مثل أرون ميلر ومارتن أنديك وسائر اليهود الأميركيين الذين تعاطوا بالمفاوضات، مصدوم كما صُدم الجيل السابق منهم بحرب أكتوبر 1973. لكنّ روس مثل الآخرين لا يريد محاسبة المسؤولين الإسرائيليين الآن، والذين يتفوّقون بالسلاح والاستعداد على كل جيوش المنطقة (!) ودائماً لأنّ حرب الوجود ما تزال دائرة!
دنيس روس لا يحبّ الحديث عن السلام الآن ليس لتجنّب إحراج نتانياهو فقط، بل ولأنّ الدعوة للمؤتمر الدولي تعني خروج الأمر من الأيدي الأميركية
ما هذا العقل؟ المستشرق الصهيوني المشهور برنارد لويس قال لي عام 2006 بعُمان إنّ هذا العقل أميركي وليس يهودياً. فالأميركي يفعل الصحيح أخيراً لكن بعد أن يكون قد جرّب كلّ التجارب المُخطئة. كان الأميركيون يخوضون يومها معركة الفلوجة بالعراق والتي كلّفت تكاليف ضخمة لدى الطرفين، وسقط فيها آلاف المدنيين. في رأي لويس أنّ الأميركيين رغم حروبهم الكثيرة قبل الحربين العالميتين وبعدهما ما دخلت في وعيهم تجربة الدول الاستعمارية العريقة مثل إنكلترا وفرنسا وهولندا والبرتغال وإسبانيا وبلجيكا. ولأنهم يعتبرون كلّ حروبهم أخلاقية ولمساعدة الآخرين (= حروب صليبية للخير العام!) فإنهم لا يقتنعون بالانصراف عن قناعاتهم إلاّ بعد أن يخسروا خسارات كبيرة ويخسر حلفاؤهم، وفي الغالب يتجلّى اقتناعهم أخيراً بالانسحاب، فتصبح الفضيحة أكبر. وهذا هو الذي حصل في فيتنام والصومال وأفغانستان والعراق وقد يحصل في سورية وبعض الدول الإفريقية. إنّ الوهم الأميركي الجديد والذي يبدو في حرب أوكرانيا وحرب غزة، اقتناع الأميركيين ليس بالدوافع الأخلاقية التي تكتنزها “المدينة على الجبل” فقط؛ بل وبأنهم أعلى كفاءةً من الأوكرانيين والإسرائيليين. ولذلك يشاركون في القيادة والإدارة عن كثب في الحالتين ولا يكتفون بالإمداد بالسلاح المتقدّم. ومن أهدافهم وبسبب القرب والتأثير أن يتمكّنوا من المشاركة من موقع قوةٍ في حسم المعركة وأجَل إيقافها لكي لا تصبح حرب استنزاف، والمشاركة في المفاوضات والمصائر وعدم تركها بأيدي الأوكرانيين والإسرائيليين، الذين ما أثبتوا كفاءةً ظاهرة رغم التفوّق بالسلاح وبالاستعداد!
هذا ما يريده الأميركيون
يشيع الآن أنّ الأميركيين هم الذين يعارضون الغزو البرّي. لكنّ الواقع أنهم يتركونه يحصل وإن بخطواتٍ صغيرة. فإن نجح فبها ونعمت، وإن لم ينجح، فيتجهون بواسطة قطر ومصر إلى المفاوضات على رؤوس الأجانب والأسرى فلا يستطيع الإسرائيليون المعارضة. وهناك أمرٌ آخر وهو أنّ الراديكاليين الإسرائيليين يريدون تهجير سكان غزة إلى سيناء ومصر ضدّ ذلك بالطبع مثل الفلسطينيين وسائر العرب. فإنْ لم تنجح هذه الفكرة المشينة؛ فإنّ الأميركيين يفاوضون على مَنْ يدير غزة. والأمر الثالث الحديث الكثير عن حلّ الدولتين. الأميركيون يريدون أن تظلّ هذه الدعوة عامة وغامضة. لكنّ الاسبان أحرجوا الاتحاد الأوروبي بفكرة عقد مؤتمر دولي لهذا الغرض خلال ستة أشهر. ما وافق الأميركيون ولا عارضوا وهمُّهم منع سقوط السلطة الفلسطينية الآن ليختبروا قدرتها على البقاء للتفاوض، ولذلك يُصدرون بيانات يومية بشأن منع المستوطنين من الاعتداء على الفلاحين وعلى شبّان المدن، وقد سقط في الضفة مدنها وأريافها منذ 7 أكتوبر ما يزيد على المائة ضحية!
دنيس روس لا يحبّ الحديث عن السلام الآن ليس لتجنّب إحراج نتانياهو فقط، بل ولأنّ الدعوة للمؤتمر الدولي تعني خروج الأمر من الأيدي الأميركية. وهو ما لن تقبل به واشنطن وإسرائيل، لكنه يحرجهما ويدفع الولايات المتحدة لاختراع صيغة جديدة للتفاوض خشية العودة للصيغ القديمة الفاشلة، أو أن يأخذ الروس والصينيون… والأوروبيون الأمر بأيديهم!
إقرأ أيضاً: هل من مخرجٍ من هذه الحرب الأبديّة؟
في حرب أكتوبر عام 1973 ومنذ اليوم الرابع للحرب صارت أميركا شريكاً لإسرائيل بالإمداد بالسلاح وبالاستعمال والإدارة. أما في حرب غزة فإنّ الولايات المتحدة شريك بالبحر ثم صارت شريكاً بالبر والجو. وهي تضرب قواعد الحرس الثوري وأنصاره بسورية والعراق. وربما تشارك الآن في ضرب مواقع في غزة وفي لبنان! فهي تريد من جهة تأمين إسرائيل وإعادة ثقتها بنفسها، وهي تريد من جهة ثانية ردع الآخرين عن التدخل باعتبارها ما تزال موجودة ومؤثرة في سنة الانتخابات التي يسارع إليها بايدن. وفي النهاية هي تريد أن يبقى دورها حاسماً في المآلات وفي السلم بعد الحرب!
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@