لم نكن نعرف شيئاً عن طغيان حاكمنا يوم كنّا أطفالاً. لم يكن الطغيان غريباً عنّا ولم يكن الطاغية عدوّاً. الأب والمعلّم وسائق الباص وبائع الخضرة وشرطيّ المرور، ولن نصل إلى أبعد. لا رجل الأمن كان في متناول النظر ولا الحزبيّ الذي ذهب بعيداً في خيلائه القوميّ. كان عالمنا يمتدّ بين الدفتر المدرسيّ وعلم الخميس. غير أنّ فلسطين كانت كلمة السرّ التي حرصنا على أن لا ننطق بها إلّا بعد أن نغسل أسناننا لكي تحلّق في الفضاء مثل قطرة عطر تمتزج بالغيوم.
كان الطاغية فلسطينياً أكثر منّا. هو يعرف ماذا يقول وأين تقع كلمته ونحن نتهجّى الحروف الستّة. ببراءة خبرتنا ظلّت فلسطين تقترب وليس علينا سوى أن نغمض عيوننا لنراها في الحلم. رمشة عين هي المسافة التي تفصل بين الحلم والواقع. كم سهرنا على أحلامنا لتضعنا في قلب المدن التي تشبه الأحجار الكريمة التي تزيّن الخواتم. هناك على البحر تتمدّد حيفا ويافا وعكّا تحت الشمس فيما تتسلّق القدس سلّماً إلى السماء كلّ نهار. ولأنّ نهارها لا ينتهي إلا بعد أن يرفع الأنبياء سجّادات صلاتهم عن أرضها فقد ظلّ لمعانها يخترق ليلنا مثل رفّ عصافير لا نهاية لصفيره.
هل كانت فلسطين لنا أم له؟
لطالما حطّمنا زجاج نوافذ المدرسة في ذكرى النكبة التي لم نكن نعرف شيئاً عنها. تظاهرة من أجل لا شيء. لم نكن نهرول بالحجارة من أجل أرض بل وراء فكرة. تشبه فلسطين فتاة تعبث الرياح بأطراف تنّورتها فيما الشباب يرسلون إليها قبلاتهم في الهواء. حين هُزمنا، هُزمت جيوشنا، هُزمت أنظمتنا، هُزمت عروبتنا، ولم تُهزم فلسطين. تلك حقيقة لن تجد لها طريقاً سالكة في لعبة الكلمات المتقاطعة. كان علينا أن نفتح قوساً لم نغلقه إلا حين قال الطاغية وقد التفّ على رقبته حبل المشنقة “فلسطين عربيّة”. تلك وصيّته. يا لألمنا ويا لألمه. صرنا غرباء من أجله وصار غريباً من أجلنا. صارت فلسطين هي القاسم المشترك بيننا في الغربتين.
كانت فلسطين كوكبنا الذي نعرف أنّه يسبح في المجرّة. غير أنّه الكوكب الذي لا يفارق صوته. تلك سلسلة تقود إلى مفاتيح بيانو نُسيت في عتمة كنيسة. لن يعود العازف من حرب الثماني سنوات إلّا معاقاً. لكنّ فلسطين تلمع مثل نجمة في عينيه
فلسطين تبقى في القلوب
نحبّه أو نكرهه. ذلك ليس السؤال. نحبّ فلسطينه أو نكرهها. ذلك هو السؤال. ليست فلسطينه ولا فلسطيننا كياناً غامضاً. جغرافيا مشى عليها التاريخ بقدمَيْ شاعر. سيكون لموسيقى صوته وقع نايات الرعاة في حقول الزيتون. سنرى صورتنا بالأسود والأبيض. هل سيأخذ فلسطينه معه ويبقي لنا فلسطيننا؟ مطمئنّاً سيفعل ما يريد وهو يعرف أنّ فلسطينه ستبقى على الأرض بقوّة بقائها في القلوب. لا بأس أن يأسرنا عصفور إلى قفصه الذي هو عبارة عن قضبان مرسومة على ورقة. لم يطلب منه أحد أن يبقى معنا. كانت خارطة فلسطينه قد اكتملت مع حبل المشنقة. لم يفكّر أحد من أعدائه في أنّ رصاصة في القلب كانت ستصيب فلسطينه. قالها مطمئنّاً وبمزاج أسطوري: “فلسطين عربية”. تحدّى رجولتنا كلّها بأنوثة فلسطينه التي عرف أنّها تمرح بين الملائكة.
كانت فلسطين كوكبنا الذي نعرف أنّه يسبح في المجرّة. غير أنّه الكوكب الذي لا يفارق صوته. تلك سلسلة تقود إلى مفاتيح بيانو نُسيت في عتمة كنيسة. لن يعود العازف من حرب الثماني سنوات إلّا معاقاً. لكنّ فلسطين تلمع مثل نجمة في عينيه.
سيقول: “رأيتها هناك مثلما كنت أراها هنا”، ولم يكن الطاغية ساحراً. بلاد ليست كالبلاد، لكنّها ليست منفى. لطالما فكّر فيها البعض تجريديّاً. فالطرق ليست سالكة إليها. لكنّ زيت زيتونها يبلّل الطرق بلمعانه. ما الذي عرفه عنها ولم نعرفه بحيث صارت تميمته إلى الموت؟
كان الموت حقيقته الوحيدة وقد قرّر الذهاب إليها. كان في موته فلسطينياً أكثر منّا وأكثر منهم. لكنّه لم يحرمنا من فلسطيننا. لم يحرمهم من فلسطينهم. فكّر في إنصاف موته حين قال وقد أحاطت به الشياطين: “فلسطين عربيّة”.
إقرأ أيضاً: موت غرناطة والسينما.. في بغداد
له ولنا ولهم. للعالم كلّه: فلسطين عربية. كانت وستظلّ كذلك. سنقول “رأيناها على الخرائط” غير أنّنا في الحقيقة رأيناها في عينيه وهما تسخران من الموت. كانت فلسطين أقوى من الموت. تلك حكاية ينبغي أن نضمّها إلى سلسلة حكاياتنا الخرافية لولا أنّ الواقع يؤكّد حدوثها. لن يكون الخمر حقيقيّاً في قانا ما لم تكن صورة فلسطين حقيقية في عينيه. لقد وعدنا بها وهو يصافح ملاك الموت. كم أخطأنا في فهمه وصار علينا أن نعتذر من فلسطينه.
* كاتب عراقيّ