هيليكوبتر بحمدون: الجيش يدفع ثمن القمار السياسيّ

مدة القراءة 7 د


تتقبّل المؤسّسة العسكرية التعازي عن ضحيّتين من خيرة شبابها سقطا بسبب تدهور الطوّافة العسكرية من نوع Hyuwi 2 بين بحمدون وحمّانا مساء الأربعاء، فيما التحقيقات ما تزال مستمرّة لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء سقوط الطوّافة. وسواء كان السبب الضباب والحالة الجوّية أو الأعطال الفنّية، إلا أنّ النتيجة واحدة، ومفادها أنّ المؤسّسة العسكرية التي ما تزال صامدة موحّدة، يتعرّض مستقبلها لخطر داهم جدّاً، بفعل مجموعة تحدّيات أبرزها وقف المساعدات في الأشهر المقبلة، وانتهاء ولاية القائد جوزف عون في كانون الثاني المقبل، وبالتالي غياب الإمرة على الجيش بسبب فراغ رئاسي يمنع تعيين قائد جيش جديد من جهة، وبسبب فراغ في رئاسة الأركان من جهة أخرى، والنتيجة تغييب الموقع الوحيد الذي يمكن له أن “يأمر” المؤسّسة بغياب قائدها.

رهان سياسيّ على فراغ المؤسّسة العسكريّة
في الوقت الذي يتحدّث فيه قائد الجيش جوزف عون عن خطر حقيقي ينتظر المؤسّسة، يتعامل أهل السياسة مع هذا الكلام انطلاقاً من المقامرة الكبيرة التي يقومون بها وفق حساباتهم السياسية والرئاسية والتي تصل حدّ الاستهتار بمستقبل أكثر المؤسّسات قدرة على حماية السلم الأهلي في البلد.
في الزيارة الأخيرة لعدد من نواب المعارضة لقائد الجيش، نقل النواب عن عون قوله إنّ كمّيات مادّة المازوت الباقية لن تدوم أكثر من شهر، وإنّ الدوريات العسكرية لن تستمرّ على وتيرتها الحالية. في الساعات الأخيرة تدارك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الأزمة، ووقّع على اعتمادات خاصّة بالمؤسّسة العسكرية لن يدوم ما ستوفّره طويلاً في حال استمرار الواقع على حاله.

تحدّثت مصادر مقرّبة من الجيش لـ”أساس” عن مجموعة تحدّيات تتربّص بالمؤسّسة عسى أن تعيها المواقع المسؤولة لتجنّب الانهيار الكبير

تحدّثت مصادر مقرّبة من الجيش لـ”أساس” عن مجموعة تحدّيات تتربّص بالمؤسّسة عسى أن تعيها المواقع المسؤولة لتجنّب الانهيار الكبير، ولخّص البعض ذلك بالقول: “لا يستطيع القائد أن يمرض، أو يغيب، أو يسافر، على الرغم من الدعوات التي تصله من الدول المانحة مساعداتٍ للجيش، ولا يستطيع أن يغيب ساعة واحدة لعدم وجود أيّ بديل عنه في القيادة وعدم تعيين رئيس للأركان”.
هذه واحدة من أكبر الأزمات التي تعيشها القيادة العسكرية، علماً أنّ عون كان يسافر بشكل دوري إلى قطر والولايات المتحدة الأميركية لتوفير المساعدات لعناصر الجيش، سواء مبلغ المئة دولار للفرد التي تُدفع مباشرة من حسابات السفارات إلى حسابات العناصر، أو لتوفير الموادّ الغذائية وغيرها من المساعدات التقنية التي تصل إلى الجيش.
جاء اليوم سقوط الطوّافة العسكرية، خلال مهمّة تدريبية لها، ليسلّط الضوء على حجم الخطر الذي يهدّد المؤسّسة وحجم المسؤوليات الملقاة عليها في ظلّ الشغور الكامل في الدولة، إذ تكشف المعلومات عن تدريبات مستمرّة يقوم بها الجيش على الرغم من النقص اللوجستي. ومع أنّه تمّ خفض عدد الدوريات والمهمّات التدريبية، لكن ليس إلى حدّ التأثير على الجهوزية العسكرية والأمنيّة التي يحتاج إليها البلد.
ليس من عناصر ترفض القيام بأيّ مهمّة توكَل إليها بسبب الأزمة أو الخوف. هناك حالات فراغ، وهناك استقالات، لكنّ لدى المؤسّسة 30 ألف طلب انتساب إليها بعد بروز الأزمة، وما تزال تنتظر طلبات الكلّية الحربية. هكذا تلخّص المصادر الكلام عن واقع العسكر الذين يُعتبرون من أكثر الفئات المهمّشة اجتماعياً في واقع الأزمة.
ينقل زوّار قائد الجيش عنه اضطراره إلى اتّخاذ قرارات استثنائية بغياب قرار الدولة الفعليّ، عبر وضع المؤسّسة العسكرية في الواجهة في وقت يُطلب منها أن تكون حاضرة في كلّ الحوادث الأمنيّة المتنقّلة.
آخر هذه الحوادث في الكحّالة، حيث تحمّل الجيش مسؤولية “لمّ الساحة تجنّباً للفتنة وحفاظاً على ما بقي من سلم أهليّ”. وقبل الكحّالة حصلت مجموعة من الحوادث وُضع الجيش في الواجهة خلالها، فيما اختفت السلطة السياسية. في الواقع إنّ المؤسّسة العسكرية تابعة للسلطة التنفيذية، لكنّها تحوّلت بفعل الفراغ والعجز السياسي إلى أكثر من ذلك. فكانت حاضرة لاتّخاذ قرارات صارمة بعيداً عن التخبّط السياسي وصراعات القوى، منذ انتفاضة تشرين الأول 2019، ثمّ انفجار المرفأ في آب 2020، ثمّ حوادث الطيّونة في تشرين الأول 2021، وعين الحلوة والكحّالة في العام الحالي، وغيرها من المحطات المفصليّة التي تؤثّر على “السلم الأهلي”.

مناقصات داخليّة لمواجهة الأزمة
في كلمته في عيد الجيش، في 1 آب، تحدّث القائد جوزف عون عن “استعداده للقيام بقرارات استثنائية للمحافظة على صمود الجيش واستمراريّته”. وفي هذا الكلام تقصّد عون أن يجيب على كلّ ما وُجّه إليه من اتّهامات بعدم القيام بمناقصات أو بالقيام بعقود بالتراضي. غير أنّ واقع الأمر من الداخل يختلف عنه من الخارج. وفي الوقت الذي تشترط فيه الدول المانحة تقديم مساعدات للجيش لا تمرّ عبر الحكومة لأنّه لا ثقة بالطبقة السياسية، تجد القيادة نفسها أمام تحدّي قبول هذه المساعدات مع تقديم كشوفات بصرفها للدول المانحة للمحافظة على الشفافيّة. وعليه، كان واضحاً كلام رئيس هيئة الشراء العامّ جان العلّية، في حديثه إلى موقع “أساس”، الذي شرح فيه الحيثيّات القانونية التي تحكم قرارات القيادة العسكرية.

ينقل زوّار قائد الجيش عنه اضطراره إلى اتّخاذ قرارات استثنائية بغياب قرار الدولة الفعليّ، عبر وضع المؤسّسة العسكرية في الواجهة في وقت يُطلب منها أن تكون حاضرة في كلّ الحوادث الأمنيّة المتنقّلة

بغياب قدرات الدولة يستمرّ الجيش بفضل مبادرات جماعية لعدد من الأفواج العسكرية التي تعمل على مشاريع زراعية في مناطق انتشارها، وبفضل المساعدات من الموادّ الغذائية أو المبالغ المالية أو الأدوية للطبابة العسكرية التي أصبحت أفضل من أيّ من الضمانات الصحية الأخرى الرسمية. فمن يزور الطبابة العسكرية، يمكنه أن يقرأ لافتات تنشر أسماء من يقدّم المساعدات العينية لتوفير الأدوية المزمنة وتسديد تكاليف الاستشفاء في شفافية غير معتادة في لبنان.

تحدّي الأمن واللاجئين السوريّين
في الداخل يُطلب من المؤسّسة العسكرية أن تكون حاضرة في كلّ شارع عند حصول أيّ تطوّر أمنيّ، فهذا واجبها بكلّ الأحوال، لكنّها اليوم تواجه استحقاقات أمنيّة داخلية في ظلّ غياب القرار السياسي الداخلي، وتواجه امتحانات بالجملة في قدرتها على المواءمة بين واجبها الأمنيّ واحترامها لحقوق الإنسان، وتحديداً في ملفّ النازحين السوريين. وتتحدّث مصادر مقرّبة من الجيش عن سبعة آلاف نازح سوري أعادهم الجيش من على الحدود الشمالية إلى سوريا. واقع الحال أنّ السوريين يعانون أزمات معيشية هائلة حتى إنّ آلاف العائلات لا قدرة لها على شراء الخبز، ولا يبقى أمامها سوى الحدود الشمالية اللبنانية المفتوحة على مصراعيها بفعل جغرافيّتها الوعرة. وعلى الرغم من وجود الجيش اللبناني هناك، إلا أنّه لا يملك القدرة على ضبط حركة دخول السوريين الذين يعبرون بالآلاف إلى لبنان.

إقرأ أيضاً: ميقاتي مرعوب: هل يعتكف عن التصريف؟

بين البرّ والبحر، وُضع الجيش بين استقبال السوريين المطرودين من أوروبا لإعادتهم إلى سوريا، وبين السوريين الهاربين من جوعهم إلى لبنان. الحكومة غائبة، والقرار السياسي مفقود، والكرسي الرئاسي فارغ، وقريباً في كانون الثاني ستفرغ قيادة الجيش، ولا بديل لقيادتها سوى رئاسة الأركان الشاغرة أيضاً، وكلّ الفتاوى التي تحضر لملء الشغور غير قانونية. هل يدرك السياسيون حجم لعبة القمار التي يلعبونها على مصير المؤسّسة؟ إذا أدركوا فالبلاد على درب الهلاك، وإذا لم يدركوا، فليعلمهم أحد بذلك، لأنّ الآتي أعظم، إلا إذا صدق رئيس مجلس النواب نبيه برّي في قوله إنّ الرئاسة قريبة. في أيلول يُحدّد مصير الرئاسة، إمّا الذهاب إلى تسوية أو يُترك لبنان ليغرق في قعر غير محدود.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: josephinedeeb@

مواضيع ذات صلة

بعد 100 عام: الشيعة “يعودون”… إلى سايكس بيكو

في 1982، حين سقط بشير الجميّل في وسط الأشرفية التي دافع عنها، اكتشف المسيحيون أنّ العمق الإسرائيلي “كذبة” وأنّ لبنان وطنهم النهائي. وفي 2005 حين…

حرّية حركة إسرائيل بدأت: قصف قرى الجنوب خلال الهدنة

في الرابع عشر من هذا الشهر (تشرين الثاني) نشر “أساس” مسوّدة الاتّفاق الذي أصبح أمراً واقعاً منذ أيام، لوقف الأعمال العدائية ضمن مهلة 60 يوماً،…

لودريان في بيروت: رئاسة و1701 واستقرار

أُدرِجت زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان للبنان في خانة الأكثر الأهمّية سياسياً والأشدّ حزماً رئاسياً، ولو أنّها في نفس إطار مهمّته الأساسية، فمحورها…

اختبار اليوم الأوّل: الرّئاسة تضغط!

لم يعد مضمون اتفاق وقف إطلاق النار ببنوده الـ13 و”ألغامه” مُهمّاً بقدر الحاضنة الميدانية – السياسية التي ستواكب تنفيذه منذ دخوله حيّز التطبيق فجر الأربعاء،…